منذ البدء لم يكن البعث حزبا موحدا من الناحية الفكرية والسلوكية فهو الذي جاء من اندماج حزبين أو مجموعتين فكريتين في نهاية الأربعينات من القرن الماضي، ومن ثم تبلور بعد سنوات الى جناحين متناقضين تماما الى حد التذابح والتقاتل كما جرى لسنوات دموية طويلة بين الطرفين، حيث استحوذ الأول على مقاليد السلطة والمال في دمشق في الثامن من آذار 1963م والثاني في بغداد بعد انقلابه على عبدالرحمن عارف في 17 تموز 1968م وحتى هزيمته وانهيار نظامه واحتلال العراق في نيسان 2009م.
وفي كلا الدولتين اعتمد الحزب وجناحيه سياسة الضم والاحتواء بالقوة والصهر في بودقته مع مختلف الاتجاهات الفكرية والانتماءات السياسية والعرقية والدينية من أقصى اليمين الى أقصاه في اليسار، يضطرهم في ذلك على التجمع والالتفاف حوله بالخوف أو الارتزاق والبحث عن فرص العمل التي يمتلك مفاتيح مقاعدها ومواقعها، على خلفية وطبيعة الحزب الأوحد دون منافس أو معارض، وقلة من القيادات المؤدلجة ( العقائدية ) التي تحملت مسؤولية تدمير الحزب والبلاد وتسببت في كوارث الحروب والمآسي ومحارق حلبجة والأنفال وإبادة وتجفيف الاهوار إضافة الى كل عمليات التصفية الجسدية التي طالت آلاف مؤلفة من القوى الوطنية المعارضة بما فيها الكثير من التيارات البعثية التي كانت تقف الى الضد من رأس الحزب أو النظام.
وخلال ما يقرب من أربعين عاما من حكم هذا الحزب هنا في العراق وتفرده في السلطة، استطاع ضمن خطة بوليسية ومخابراتية تعتمد مبدأ الترغيب والترهيب في اوسع عملية تبعيث للمواطنين المرتبطين بالدولة بأي شكل من الأشكال وفي كل مؤسساتها مقرونة في مناطق العراق الشمالية بعملية تعريب شاملة أدت الى ترحيل آلاف الأسر وإذابتهم في مجتمعات عربية بعيدة عن مناطق سكناهم التي نقل اليها النظام أضعاف من تم ترحيلهم من عرب الجنوب والوسط.
فقد ابتدأ أول سنوات حكمه بتبعيث الجامعات والمعاهد الى درجة إغلاق الكثير منها تماما للحزب، وبالذات كليات ومعاهد ودور التربية والفنون الجميلة والكليات العسكرية والجوية والشرطة، لينتقل تدريجيا الى عدم قبول أي طالب ما لم يتم تزكيته من أي منظمة من منظماته المنتشرة على مساحة العراق، والتزكية غالبا ما تعني تأييد انتمائه الى صفوف الحزب بالدرجات الابتدائية لسلم التدرج الحزبي ( مؤيد، نصير، نصير متقدم )، وتسير الأمور هكذا لتكون أكثر شمولية بعد سيطرة البعث على العراق بقوة وبالذات بعد خيانته للحركة الكوردية والحزب الشيوعي العراقي في تكتيكه الجبهوي والانقلاب عليهما وتفرده كاملا بالسلطة والمال.
ولا تأتي نهاية السبعينات من القرن الماضي إلا وشمل كل قطاعات الشعب ومفاصل الدولة مهما كانت صغيرة بالانتماء للحزب، إلا القلة القليلة التي قاومت بشدة الانتماء أو الارتباط به ودفعت ثمنا باهظا لتلك المقاومة المدنية، حيث حرمت من معظم حقوقها الإدارية والعلمية والوظيفية وحتى السكن وقطعة الأرض التي هي ابسط حقوق أي مواطن على الأرض، وبذلك أصبح الهيكل التنظيمي للحزب يضم ملايين الناس على شكل سجلات ومدونات في مكاتب المقرات الفرعية والقيادية ولم يكن انتماء أغلبية هؤلاء إلا مجرد انتماءً وظيفيا كوسيلة من وسائل التعيين المطلوبة أثناء التقديم لأي وظيفة.
وجاءت مرحلة الحروب لكي يتحول فيها الحزب الى معسكر يبتلع كل الناس في نفير عام شمل حتى الفتيان تحت أعمار 18 سنة للانضمام الى الحزب وموالاة القائد والثورة مستخدمين في ذلك فرية تلك الحروب وظروفها القاسية وقوانينها الدموية لتحويل الحزب الى وعاء يضخ الوقود الى ماكينة الحرب.
وقد ذكرنا في مقال سابق كيف بدا مشهد البعث الرقمي عشية انهياره وسقوط نظامه، جدولا يثير الرعب لأول وهلة ولكنه يبدو أكثر سهولة بعد التحقق من طبيعة معظم المنتمين الى صفوف ذلك الحزب، فقد ضم ما يقرب من ( 1200000 ) مليون ومائتي ألف عضو أي رفيق حزبي، يقابلهم ما يقترب من ( 32000 ) اثنين وثلاثين ألف عضو قيادة فرقة، يقودهم ( 6000 ) ستة آلاف عضو شعبة تقريبا، يخضعون لقيادة ما يقارب من ( 250 ) مائتين وخمسين عضو قيادة فرع في كافة محافظات العراق، ومع أعضاء القيادتين القطرية والقومية ومكاتبهما الرئيسية ( الإعلام والمهني والمنظمات والعسكري ) يصبح حجم هيكلهم اقرب الى ( 1240000 ) يتبعهم ما لا يقل عن ضعفهم من المؤيدين والأنصار وبحجمهم من المرتزقة والانتهازيين فيكون الرقم فعلا مثير للخوف والتوجس وأنت تفكر في اجتثاثه أو إلغائه بالكامل؟
إلا أن الحقيقة بعيدة كل البعد عن تلك الأرقام المثبتة على جداول وسجلات المسؤولين سابقا وحاليا عن الحجم التنظيمي لحزب البعث وحتى في تعريف البعثي نفسه، فالعراقيون يدركون كيف كان النظام يزج الناس في حزبه، ويضطر أفواجا آخرين بالانتماء الى تنظيماته طلبا للماء والهواء والغذاء والتعيين، وليس كل من انتمى الى ذلك الحزب أصبح مجرما أو خارجا عن القانون، لمجرد انه كان بعثيا حتى من أولئك الذين تقدموا في سلم المسؤوليات بحكم تراكم الزمن أو الموقع الإداري، وربما قادت هذه المعطيات والاستنتاجات الكثير من زعماء الأحزاب والحركات السياسية الفاعلة بعد السقوط الى السماح لبعض من قيادات البعث والمتعاونين معه الى الاشتراك في العملية السياسية، وخصوصا إن الأمريكان يفضلون بعثا علمانيا مدجنا على الكثير من المتطرفين الآخرين من المشاركين الأساسيين في الحكم الجديد!
واليوم وبعد أكثر من ست سنوات من هزيمة وانهيار وسقوط ذلك الهيكل وقياداته، التي تم حصرها واعتقال معظم رموزها ومحاكمتهم وهروب البقية الباقية الى خارج البلاد، وصدور أكثر من قانون للتعامل مع بقايا ذلك النظام، اختلطت الأوراق وابتعدت الأمور عن صلب الحقيقة التي تستدعي كيفية تحريم ومحاربة ذلك الفكر والسلوك، الذي مارسته قيادة صدام حسين وحزبه مع كل العراقيين، بما فيهم تلك الملايين من المنتمين وظيفيا لذلك الهيكل المتداعي، نحن أحوج ما نكون اليوم الى غلق ذلك الملف وتحريم استخدامه عكازا أو وسيلة غير وطنية وتشريع قانون متحضر يحرم الشوفينية والفاشية القومية والتطرف الديني والمذهبي ويمنع ثقافة ذلك النظام وسلوكه وأفكاره وكل من يدعو اليها أو يعمل من اجلها على غرار ما جرى في كل من المانيا وايطاليا.
إن الخوف ليس من عودة البعث أو نظامه السابق لأن هذا الأمر مخالف لسنن الطبيعة والأشياء، ومجريات الأحداث والتاريخ ومجموعة الآليات والمعطيات ووعي الناس واتعاظهم، لكن الخشية من أن يأخذ البعض ممن يقودون العراق شيئا من نموذج البعث واعتباره قدوة أو مثال يحتذى به، معتبرا كل مآسينا وما جرى لبلادنا من حلبجة والانفال والقبور الجماعية والتبعيث والتعريب منجزات وطنية تاريخية، وتلك هي الكارثة.
التعليقات