غضب شديد، حزن عميق، وضياع ما بين السماء والبحار. لا أحد يعرف أين هم، وبعد انقضاء أكثر من 24 ساعة على عمليات البحث، لم تستطع فرق الانقاذ سوى إيجاد 15 جثة من أصل 90 راكبًا كانوا على متن هذه الطائرة الأثيوبية المنطلقة من مطار بيروت الدولي.

أنين من هنا وصراخ من هناك، منهم من يضع اللوم على الدولة اللبنانية لعدم تأمينها خطوطًا جوية محترمة مباشرة ما بين لبنان وأفريقيا، ومنهم من يضع اللوم على القبطان لعدم إلتزامه بتعليمات برج المراقبة، وآخرون يحمّلون المسؤولية لإدارة مطار بيروت لسماحها بإقلاع هذه الطائرة وسط عاصفة رعدية. وما همّ اللوم الآن بعد أن فقدت كل تلك الارواح، يحاولون أن يقنعوا أنفسهم بأن أقاربهم ما زالوا على قيد الحياة، أفكار معلّقة في حبال الهواء والنار... ومن يدري أين هم، من يدري أين هي هذه الطائرة، من يدري ما الذي حصل. كل هذا لا يهمّ الان، فالأهم من كل ذلك، إيجاد هذه الجثث، وإرجاعها إلى ذويها. تعدّدت الاسباب والموت واحد.

المضحك المبكي، مشهد الرؤساء وهم يتقاطرون إلى وفود الاهالي المفجوعة، يمسحون دموعهم لثوانٍ، يستمعون لصراخم وغضبهم لثوانٍ، يحاولون إسكاتهم، ولكن الغضب أقوى من الالم، فمنهم من يكسر رقبته وينحني أمام مشيئة الله، ومنهم من يفجر أكثر ويصرخ في وجه هؤلاء الكبار. يعدونهم بالتفتيش المتواصل، فهل نكذب عليهم وعلى أنفسنا ونقول إن من يسقط في البحار يصمد 72 ساعة؟ فهل من يغرق في المياه يستطيع أن يصمد 72 ساعة؟؟؟ فأي علم هو هذا؟ وأي مهزلة هي أن تجعلوا هؤلاء الأهالي ضائعين، وسط كارثة حطمت قلوب أقاربهم. وماذا تبقّى لديهم سوى إستلام جثث ذويهم، ومن قال إنهم سيستلمونها، بعدما سمعنا بلبلة عن عدم تسليم الجثث للأهالي! وأي إنسانيّة هي هذه؟

ينقطعون عن أراضي بلادهم، يسافرون بعيدًا لتأمين لقمة عيشهم، يكدحون ليلاً نهارًا، لإنعاش الاقتصاد اللبناني ولتأمين حاجات عائلاتهم، ينفصلون عن أمهاتهم وأولادهم، يرحلون عن زوجاتهم وأحبابهم، ليؤسسوا مستقبلاً زاهرًا لهم. ولأنّ اللبناني قدره دائمًا التضحية، ولأن حياته دائمًا محاطة بإكليل من الشوك، ولأن مسيرته ممزوجة بدماء الالم، ها هو اليوم يرحل عن بلاده وعائلته وأحبابه لكن رحيلاً يختلف عن سواه، رحيل نحو السماء والبحار! وما أزعج وأسخف هذه الاصوات المسؤولة التي ترثيهم من الان، وهي حتّى لم تلتزم بقرار الحداد، وأي دولة تصدر حدادًا رسميًّا عند الساعة العاشرة صباحًا بعد أن أصبح الجميع في أشغالهم ومدارسهم وجامعاتهم. وأي حداد هو هذا، حينما لا يلتزم أحد سوى المؤسسات التربوية الرسمية. يا أيّها القرّاء، فلو كان أحد الوزراء أو النوّاب في هذه الطائرة، quot;لقامت الدنيا ولم تقعدquot;، لأعلن حداد رسمي على ثلاثة أيام، أو جمعة على الاكثر! فهم لم يتكبّدوا عناء إصدار قرار حداد عام لمدة ثلاثة أيام أقلّه! quot;عيب عليكمquot;! 54 شخصًا لبنانيًّا ألا يوازون نائبًا واحدًا؟؟؟؟ ألا يوازون وزيرًا واحدًا؟؟؟؟ دعوني أقول لكم وبكل إحترام هؤلاء الاشخاص والارواح هم أعظم وأكبر منكم جميعًا، هم أشجع وأصدق منكم جميعًا!!! هم النواب والوزراء الحقيقيون لهذه البلاد، هم الذين قدّموا ذواتهم ذبيحة على مذبح هذا الوطن، وأنتم لم تكلفوا أنفسكم بقرار حداد أقله على ثلاثة أيام إحترامًا لهم!

ليرحم الله الانسانيّة! ليرحم الله روح كل من كان على هذه الطائرة! وليترأف الله بعائلات هؤلاء الشهداء، وليعطهم نعمة الصبر! ولتسترح أنفس الموتى المؤمنين برحمة الله والسلام وآمين.