من الطبيعي أن يضيق الإنسان بمحيطه إذا كان متخلفا، ومن السائد أن يضجر بمجتمعه إن كان هذا المجتمع يقبع تحت حقبة زمنية مظلمة، أو يعيش ضمن أطر فكرية ضيقة.

لكن ماهي السبل المثلى لإدارة هذا الضيق أو هذا الضجر، أي بمعنى كيف يحقق هذا الإنسان التوافق التام بين مبدأي الإخلاص والصواب في التعامل مع مجتمعه:إخلاص الغاية وصواب الوسيلة؟

وقبل أن نبحث عن الإجابة نستطيع أن نسبغ صفة quot; المتجاوز quot;على الإنسان المتفوق على مجتمعه في أي من المجالات، فنقول أنه متجاوز لمجتمعه فكريا أو دينيا أو ثقافيا إذا ما امتلك زخما فكريا أو معرفيا وتجاوز حدود قدرات مجتمعه، ولهذا المتجاوز علاقة غير سوية مع مجتمعه منذ أيام سقراط ومجتمعه الأثيني إلى يومنا هذا، فغالبا ماتجد المتجاوز يعيش حالة من الكآبة المزمنة، ويعيش علاقة مضطربة مع محيطه المعرفي.

ولو بحثنا عن الإجابة المقنعة، فإننا لانجد أفضل من قولنا أنه ينبغى أن يتحلى أي متجاوز بشيء من الحكمة والصبر في تعامله مع مجتمعه، فالناس أعداء ماجهلوا، وهذه سنة ثابتة، فلماذا تهمل هذه العقبة، ويفرط المتجاوز في التفاؤل، حتى إذا ما رفضت فكرته تلقى صدمة عنيفة، قد تؤدي ربما إلى تشنج مواقفه اللاحقة، والتي ربما كانت عبارة عن انطباعات استعلائية تحمل طابعا استفزازيا قد يؤدي إلى اتساع الفجوة بين المتجاوز والمجتمع.

ولو أردنا أن نستعرض نماذج من السلوك الإيجابي من قبل المتجاوز، فلنا بالأنبياء الكرام أفضل قدوة باعتبارهم متجاوزين لمجتمعاتهم عقديا، فأول الرسل نوح عليه السلام لما قال له قومه: quot;إنا لنراك في ضلال مبين quot;، أجابهم برد ينم عن ثقة وبأسلوب متحضر:quot;ياقوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين quot;، فردة فعل مجتمع نوح كانت تستدعي قول:بل أنتم الضالينquot;،لكنه ترفع عن ذلك لأنه يعلم في نفسه حجم ضلالهم ولكن تبادل السباب لايغير القناعات بقدر ما يجعل القوم يصرون على قناعاتهم السابقة، ولم يكن رد نبي الله هود على قومه بأقل تحضرا مما قاله نوح، حين قالت عاد: quot; إنا لنراك في سفاهةquot;، فقال لهم: quot; ياقوم ليس بي سفاهة.. quot;. ولو استعرضنا معظم ردود أفعال الأنبياء، نجد أنها تندرج ضمن مبدأ quot;اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمونquot;.

وقريبا من أخلاق الأنبياء نجد أن تلاميذ محمد النجباء قد برعوا في ذلك، فالإمامين الحسن والحسين لم تمنعهما حداثة سنهما من رسم إنموذج إيجابي لتعامل المتجاوز مع محيطه، فعندما رأيا شيخا يسيء الوضوء، عز عليهما أن يكسرا وقاره بتعليمه مباشرة، فقاما بتجسيد دور المعلم والمخطئ، إذ إنهما اتفقا على أن يسيء أحدهما الوضوء أمام الشيخ ويقوم الآخر بتعليمه الوضوء الصحيح مدعما موقفه بأنه قد تعلم ذلك من جده المصطفى عليه الصلاة والسلام، ففهم الشيخ مع الحفاظ على جلال شيبته، وقريبا من هذه الحقبة كان أبوالدرداء قد جسد هذا المبدأ عندما رأى جماعة من المتحمسين يوبخون رجلا قد أخطأ، فقال لهم: أرأيتم إن وجدتموه في حفرة أفلا كنتم مخرجيه؟!

قالوا بلى فقال: فلا تسبوه إذن واحمدوا الله الذي عافاكم....

وعلى النقيض اليوم،فإننا نرى المتجاوزين دينيا يستمرؤون تقريع العامة، والمتجاوزن فكريا قد جعلوا من سلوك العامة مادة فكاهية للتندر عليهم، والمتجاوزون ثقافيا قد جعلوا جهل البسطاء مدخلا للتعالي عليهم واستفزازهم.

فأنا لازلت أذكر ذلك المحاضر الذي يتعمد أن يأتي بمسائل تفوق مستوانا إبان دراستنا الجامعية، فإذا ما عجزنا عن حلها، تهلهل وجهه وقال: quot; وما أدراكم أنتم هذه مسألة أفنى العالم فلان حياته حتى صاغها quot;!

وحتى نرى انسجاما في علاقة المتجاوز مع مجتمعه،فإنه ينبغي أن يرتقي بردود أفعالهم، لا أن يهبط إلى مستوى أدنى منها.