quot;هل نريد التاريخ شدّا الي الوراء واعاقة للحركة، أم نريده سبيل انطلاق الى مستقبل أفضلquot; (د. الدوري)

كلمة عن رحيل الاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري يوم الجمعة 19 نوفمبر 2010
بكل حزن واسف يرحل عنّا الاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري شيخ المؤرخين العرب، وهو بعيد عن العراق، يرحل ليلتحق بقافلة العظماء والمتميزين من المبدعين العراقيين الذين لم تتحقق امنياتهم بأن تكون نهاياتهم على تراب العراق.. دعوني اقدم لكم هذه الفصلة الدراسية من ذاكرة مؤرخ عن الراحل الكبير الذي رحل وفي نفسه غصات لا تعد ولا تحصى.. رحل ولم ير بغداد ولم يستظل بنخيلها، ولم تتحقق امنيته بزيارة مساجدها.. ولم يتمش في شارع الرشيد.. ولم يستعد ذكرياته عن مبانيها الجامعية وعن ضفاف دجلة.. وان كان عبد العزيز الدور قد رحل اليوم، فسوف تلحق به قافلة اخرى من المدعين المتميزين العراقيين، وهم يتوزعون في شتات الارض.

معايشة البدائل الصعبة
كنا نسمع بأسمه منذ عقود من السنين وهو المؤرخ الذي تخرج علي يديه العشرات بل المئات من الخريجين من اجيال مختلفة. وكان الرجل قد سجل له ومنذ بواكير انطلاقاته نهجا معينا في الكتابة التاريخية تبلور من خلال اعماله ومواقفه وانشطته خصوصا في معالجاته او محاضراته وكتبه ودراساته وبحوثه التي نشرها. ولد الدكتور عبد العزيز الدوري في قلب العراق مع مضاعفات الحرب العالمية الأولي، فكان ان تبلور تكوينه مع انبثاق تأسيس المملكة العراقية عام 1921 معاصرا عقدين زمنيين مهمين، أي: العشرينيات والثلاثينيات، وهما يغطيان في الحقيقة عهدي الملكين فيصل الاول 1921-1933 وأبنه غازي الاول 1933-1939، وخلالهما - كما نعلم - تبلورت الفكرة القومية وغدا العراق محطة عربية لجملة واسعة وكبري من المثقفين العرب خصوصا مع بروز ونضوج الفكرة النازية والشوفيينية في العالم.

نبذة عن حياته
ولد عبد العزيز الدوري في بغداد عاصمة العراق عام 1919، حصل على بكالوريوس شرف في التاريخ من جامعة لندن عام 1940 و على الدكتوراه من جامعة لندن عام 1942، ثم عاد الى العراق، فدّرس التاريخ في دار المعلمين العالية وكلية الحقوق ثم كلية الآداب و العلوم قبل قيام جامعة بغداد. عمل مؤسسا و عميدا لكلية الآداب و العلوم، ثم رئيسا لجامعة بغداد خلال الفترة 1963-1968 لينتقل بعدها للتدريس في الجامعة الأردنية التي بقي فيها قرابة اربعين سنة.
وعندما انفجرت الحرب العالمية الثانية، نجد عبد العزيز يؤهل نفسه في دراساته العليا بجامعة لندن وكان شابا ذكيا أنهي دراساته بسرعة فائقة وعاد الي وطنه ليكون أستاذا في كلية الحقوق ولم تكن جامعة بغداد قد انبثقت بعد، فدرّس في اروقتها حتي تأسيس كلية الاداب والعلوم التي سيغدو عميدا لها قبل ان يختتم عقد الأربعينيات آخر مشاهده. ولقد سمعت انه كان يدخل قاعة المحاضرات في ذلك العقد وبعض طلبته اكبر منه سنا !! وبدأ يساهم الي جانب تخصصه في الحركة الثقافية وبدا واضحا انه يميل الي النزعة القومية ميلا صارخا في كل من محاضراته واعماله المنشورة. واستطيع ان اكشف سرا لأول مرة، اذ روى لي اناس أثق بهم جدا في الموصل منذ زمن طويل ان الدوري عندما كان استاذا ببغداد في الخمسينيات ولم يكن قد تزوّج بعد، أحّب احدى طالباته وكانت شابة موصلية شقراء بارعة الجمال ومن عائلة قديمة ومعروفة من الوجهاء، اسمها ( ب. ن. ).. وقد بادلته الحب نفسه وكان ان تقّدم لخطبتها، ولكن لم تتكّلل جهودهما بالزواج، اذ تزوجّها ابن عمها بعد ان تقّدم مسرعا اليها !! فوقفت التقاليد حجر عثرة في سبيل حبهما !! وكثيرا ما التقيت باستاذنا الدوري ولكنني كنت احجم ان أسأله عن حّبه الاول ذاك.

الصفحة السياسية: شيخ المؤرخين العرب
ولعل الخمسينيات هي اهم مرحلة في حياة الرجل اذ كانت له مساهماته الاكاديمية والسياسية أيام نهايات الحكم الملكي وصولا الي العهد الجمهوري ووقوفه أمام محكمة المهداوي شاهدا، ولم يخلص هو الاخر من تعليقات رئي المحكمة الصاخبة.. وقد كيلت له التهم السياسية ايام حكم الزعيم عبد الكريم قاسم 1958-1963، وقد نصّب رئيسا لجامعة بغداد علي عهد المشير عبد السلام عارف 1963- 1966. غادر العراق بعد وصول البعث إلي السلطة عام 1968 إلي بيروت لاسباب سياسية وقال في ردّه على سؤاله حول ذلك بأنه لم يكن مرتاحا من قدوم البعثيين الى حكم العراق ، ثم استقر في الأردن وعاش فيها حتي اليوم أستاذا في الجامعة الأردنية وكرس جهوده العلمية والبحثية والتدريسية عربيا كما حصل علي مكانة مرموقة من أوساط ومحافل ومجامع ومعاهد عدة، وخصوصا من لدن الأمير الحسن بن طلال ولي العهد في المملكة الأردنية الهاشمية سابقا، كما ونال جوائز عربية متعددة نظير خدماته العلمية، كما واستفادت من مكانته وعلمه مؤسسات علمية وبحثية متعددة، واحتفت به مؤسسة عبد الحميد شومان قبل سنوات واطلق عليه بـ quot; شيخ المؤرخين العرب quot;.. وبرغم كل ذلك، فالرجل لم يتخلص من جملة من الخصوم ( الأكاديميين ) وجلهم من الحانقين عليه لاسباب شتي سياسية وفكرية واجتماعية..
أما خصومه من السياسيين، فلهم مواقف مختلفة منه بسبب نزعته القومية التي جعلته يؤسس منذ سنوات طوال عن الجذور التاريخية للشعوبية والتي استفادت منها الاحزاب والجماعات القومية ضد خصومها ! وقد انتقدت استعارتها كظاهرة تاريخية قديمة واستخدامها سياسيا في العراق ! وكان للدوري دوره ومشاركاته الخصبة في عدة مؤتمرات وندوات ومناقشة اطروحات وموسوعات عربية ودولية. ومن الأهمية بمكان أن أسجل هنا بعض ما ذاع عنه وهو من ابعد الناس عن ذلك، اذ لما كان هذا المؤرخ قد اعتني بالتاريخ الاقتصادي العربي وعالج من خلال بعض المصطلحات والأفكار ذلك، فلقد وصفه البعض من ضيقي الأفق بالمؤرخ الماركسي ! والحقيقة، إن الرجل أبعد ما يكون عن الماركسية والفلسفة المادية، كما أعلن مرارا وتكرارا، بل انه ألف كتابه ( الجذور التاريخية للشعوبية ) ردّا على ممارسات الشيوعيين العراقيين في تلك المرحلة التاريخية.

المؤرخ صاحب التآليف التاريخية
1) الكتابة عن الظواهر
ويكاد يكون الدوري أول مؤرخ عراقي معاصر يتخصص في تاريخ العباسيين الزاهر ويوظّف تخصصه في تأسيس تيار فكري يرسخ من خلاله أهمية العصور العباسية ودراستها في العراق باعتباره مهدا مركزيا للعديد من الدول والدويلات الاسلامية واخطرها سياسيا وحضاريا علي وجه الإطلاق في تاريخنا الإسلامي.. لعل أهم ما تميز به الأستاذ المؤرخ الدوري منذ بواكيره: اهتمامه ببعض الظواهر التاريخية في تاريخنا العربي الإسلامي بدءا بالشعوبية التي كرس لها من جهوده وصولا الي القومية التي عالج تاريخها في تكوين الامة العربية. وأصدر الدوري مؤلفات عدة وله عشرات المقالات والبحوث المنشورة.

2) رؤية جديدة للتاريخ العربي الاسلامي
استطاع الدوري في مؤلفاته التاريخية أن يقدم صورة جديدة للتاريخ العربي الإسلامي عن طريق دمجه لأصالة البحث التاريخي في مؤلفات المؤرخين العرب القدماء مع أدوات التحليل و البحث التي استقاها من الغرب. واستطاع الدوري في مرحلة مبكرة جدا، تحديدا عام 1945 أن يقدم لنا كتاب ( مقدمة في تاريخ صدر الإسلام ) و هي رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي جمع فيها رؤيته للعوامل المختلفة التي أسهمت في تطور التاريخ الإسلامي و الذي يحددها بعوامل عقدية إيمانية و عوامل قبلية عصبية و عوامل إقتصادية، و بهذا جمع الدوري برؤية المسلم العربي مجمل العوامل الأساسية المؤثرة في التاريخ دون تحيز لنظرية معينة تضع أحد هذه العوامل أولا فلم يعلي من شأن الإيمان مهملا الاقتصاد و لم يهمل العصبية ليركز على الاقتصاد.


3) اشهر المؤلفات التاريخية:
طبق الدوري كل ذلك على مرويات التاريخ الإسلامي الوفيرة ليضع صورة أكثر وضوحا لأزمات التاريخ الإسلامي مثل فتنة مقتل عثمان و مشاكل العراق الاقتصادية في تلك الفترة و نزاعات الخلافة بين علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان. كان كتابه الآخر (مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي ) احد الكتب الأولي و ما زالت أحد الكتب النادرة التي تتحدث عن مراحل تطور الاقتصاد في بدايات الدولة الاسلامية. ومن اشهر مؤلفاته: نشأة علم التاريخ عند العرب / مقدمة في تاريخ صدر الإسلام / مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي / بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب / العصر العباسي الأول: دراسة في التاريخ السياسي و الإداري و المالي / الجذور التاريخية للشعوبية / التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية و الوعي / ابن خلدون والعرب: مفهوم الأمة العربية (في الفكر الاجتماعي الخلدوني: المنهج والمفاهيم والأزمة المعرفية ) / العصر العباسي الأول دراسة في التاريخ السياسي والإداري والمالي / دراسات في العصور العباسية المتأخرة / أنساب الأشراف / البلاذري (279هـ) ؛ تحقيق رفقة بعض الباحثين.

الدوري في رأي المستشرقين: برنارد لويس مثالا
أول ما عرفناه كنا طلبة علي مقاعد الدراسة.. لم يدرّسني الرجل، بل كنا نقتني كتبه لتكون لنا مرجعا ومعينا في دراستنا وبحوثنا. لقد لفت نظرنا مطولا إلي منهجه الدقيق المميز، فهو يعالج أي قضية وأي إشكالية بدقة متناهية معتمدا في ذلك علي المعلومات التاريخية لا علي وجهات النظر العادية.. ثم يبرع في تحليلها بشكل مركز، ومن ميزاته: توثيقاته التي لا يكل ولا يمل منها حتي في أعماله الأخيرة. جاء ذكر الدوري مرة من المرات أمام المستشرق برنارد لويس وكنا طلبة في بريطانيا وكان لويس يشارك في مائدة علمية مستديرة وكان في معيتي كل من زملائي وهم: ايان ماكلينان وصوفيا برنادوت وكلف هيجارد الذين كنت برفقتهم ( مايو 1981) في كيمبردج.. قال لويس بأن الدوري يزيد اليوم كثيرا من توثيقاته من دون حاجة.. ان المؤرخ بعد ان يبلغ مكانته يصبح هو نفسه وثيقة يعتمد الناس عليها، فلا حاجة الي أن يكسب ثقة قرائه، فآخذت الإذن معقبا عليه: لقد تعلمّنا من تاريخنا بأن نؤدي الأمانات إلي أهلها.. فزاغ بصره ورمقني بنظرة حادة، علما بأن احتراما متبادلا يكنه ـ والحق يقال ـ كل المستشرقين الذين صادفتهم في حياتي للاستاذ الدوري. واعتمد عليه جيل المستشرقين البريطانيين في منتصف القرن العشرين ومنهم برنارد لويس وهولت وسارجنت وغيرهم في كتابة عدة مقالات علمية في دائرة المعارف الاسلامية في طبعتها الثانية التي صدرت تباعا على امتداد ثلاثين سنة من القرن العشرين. وكان الدوري يرشح البعض من المؤرخين العرب لكتابة مقالات للانسكلوبيديات، كنت احدهم. وفي مرة اخرى، وقبل سنوات طوال، كلفّني مرة باعداد مقالات لعناوين انسكلوبيدية نسيت الى اي جهة كانت..

تجربتي مع الرجل:
لقد كان لي أول لقاء مع الأستاذ الدوري في بهو كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن صيف عام 1976، إذ سألني عما سأتخصص بشأنه فأعلمته انني اعمل على التاريخ الحديث للشرق الاوسط، وكانت لنا محادثة من نوع خاص حول الاستشراق وتاريخ العثمانيين وموقف العرب منه.. وافترقنا ولم نجتمع ثانية الا بعد سنوات طوال وقد وجدته ليس كما كان سابقا سريع الحركة وقد ترك تدخين غليونه الشهير. وكان لقاء رائعا للمرة الثانية فيه عتب خفي استدركته مباشرة بابتسامة بريئة، اذ قال في معرض حديثه بأنه فعلا قد تجاهل مرحلة تاريخية طويلة في دراسة تكويناتنا العربية للقرون الأربعة الأخيرة قبل القرن العشرين ايام حكم العثمانيين..، أجبته قائلا ومتسائلا: هل كنت مصيبا ام كنت علي خطأ ؟ فابتسم وقال بنبرته المتسامحة: الحق معك يا سيار. ولابد لي ان أوضح ذلك إنني في الفصل الأول من كتابي quot; العثمانيون وتكوين العرب الحديث quot; قد انتقدت الدوري في كتابه المعروف quot; التكوين التاريخي للامة العربية quot; لأنه تجاهل دراسة المرحلة العثمانية من تاريخنا الحديث، وارجعت ذلك الي عدم اهتمام المؤرخين المتخصصين الأوائل بهذه المرحلة.

حفل جائزة شومان
توثقت علاقتنا وكان الرجل يعزّني ويقدرني اسوة بكل الزملاء الآخرين من شتي الأجيال، وكان قد حضر حفل منحي جائزة شومان للعلوم الإنسانية في الأردن عام 1992، ودعاني إلي حفل غداء بمعية الدكاترة: ناصر الدين الأسد وعبد الكريم غرايبه وعلي محافظه وأسعد عبد الرحمن.. وغدوت أزوره بشكل خاص في مكتبه بالجامعة الأردنية الذي كان يزدحم بالكتب والأوراق من كل صوب وجانب.. وثمة التفاتة عربية أصيلة عند الرجل يعرفها كل من عرفه عن قرب، اذ لا يمكن أن يدخل أي ضيف إن لم يقم بنفسه ويطلب له ما يشربه في ضيافته. اشتركت معه في عدة ندوات ومؤتمرات ولعل ما يميزه في كتاباته الدقة والتركيز وفي محاضراته التحليل ومعرفة الأسباب والعلل والخروج باستنتاجات غاية في العلمية.. ناهيكم عن أمانته وموضوعيته وحياديته. وبقدر ما يبدي من التواضع أمام زملائه ويسمع لهم، الا انه سيد مادته في محاضراته أمام طلبته وطالباته، اذ انهم يجمعون بأنهم يخشون سلطته عليهم وعدم نسيانه ما يكلفهم به من أعمال.. مع عطف شديد علي مستقبلهم.

بعض الأدوار: التخلي والتجلي
1) الموقف من ظاهرة تاريخية اسمها quot; الشعوبية quot;:
كان أمامنا جميعا في واحد من المؤتمرات المهمة عن العلاقات العربية ـ الايرانية التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية بالاتفاق مع جامعة قطر بالدوحة وقد حضر ذلك المؤتمر الدولي عدة شخصيات علمية وسياسية واعلامية من كل من ايران والبلاد العربية.. كان المؤتمر يدور حول موضوع غاية في التعقيد والحساسية وخصوصا في رسم آفاق المستقبل بين عالمين جغرافيين متجاورين.. كان ذلك عام 1995 وبدأ عبد العزيز الدوري أول محاضرة له في المؤتمر متحاشيا الي حد كبير ما كانت له من مواقف حول quot; الشعوبية quot; لأسباب فتح صفحة تاريخية جديدة في عصر جديد، ولكنه لم ينج أبدا من بعض المشاركين العرب لا غيرهم. اذ بدا واضحا ان ثمة مواقف مضادة منه وقد كان الرجل سمحا ومتقبلا للآراء بشكل مرن جدا، وقد أحسست ـ مع نفسي ـ وكأن الرجل قد تراجع عن العديد من آرائه القديمة بعد كل ما جري من متغيرات في الثلاثين سنة الأخيرة !! ولكنه من طرف آخر لم يتخل أبدا عن نزعته القومية العربية الاصيلة وهويته الحضارية الاسلامية التي لم تزل جميعها مغروسة في أعماقه وهي تظهر واضحة تمام الوضوح في كتاباته ومنشوراته وحتي بحوثه ومواقفه وآرائه وأفكاره. لقد حدّثنى لاحقا في الاردن، بأن كتابه quot; الجذور التاريخية للشعوبية quot; كان قد ولد في مناخ تلك الايام، وكانت الشيوعية قد جعلت من نفسها عدوا لدودا للعروبة، وكان يتمثل ذلك الموقف حفنة من الناس قصدتهم في شعوبيتهم، ولم اقصد اتباع اي مذهب ولا اي ثقافة معينة من العراقيين، ولكن اسيئ فهم الكتاب ومضمونه ! وفعلا، فان هناك من العراقيين لم يزل يرفض الدوري بسبب موقفه من الشعوبية والشعوبيين.. واعتقد جازما ان الاستاذ الدوري والاستاذ الراحل الدكتور عبد الرحمن البزاز ( رئيس الوزراء الاسبق ) لم يقصدان البتة الا اولئك الذين كانوا وما زالوا يحقدون على العرب والعروبة حقدا دفينا.. وقد فضحتهم الايام الاخيرة من خلال مواقفهم الممالئة لايران، وهم قلة لا تستوي وملايين العراقيين الاصلاء الذين يعتزون بأرومتهم ويتفاخرون بعروبتهم ويتماهون مع حضارتهم.. ان الشعوبية ظاهرة مقيتة ولا يمكن نكرانها، بل ينبغي اعادة دراستها من جديد على ضوء ما استجد من احوال، وما طرأ عليها من اضافات في ظل المتغيرات التاريخية الصعبة التي اصابت العراق.

2) رد الدوري بنفسه على منتقديه
وعن كتابه ( الجذور التاريخية للشعوبية ) يقول الاستاذ الدوري في حديثه لقناة الجزيرة مساء يوم 10 / 2/ 2007 لمقدّم البرنامج: quot; هذا كتاب كتب في ظروف كان في جماعات كثيرة تدعي أنها تنتمي لحزب سياسي يعني حين كان حزب شيوعي وهم بعيدون عن هذا ناس متمولين و تجار ومترفين وإلى آخره وهذا كان وسيلة الهجوم على كل شيء اسمه عربي على الثقافة العربية على اللغة العربية، هذا كان في الماضي وتمثل أحيانا بعض الفترات ولا علاقة له يعني بعقائد الناس، أنت تؤمن ورأيك أن العرب مثلا أمة لم تعمل لم تفعل لم كذا وتعلن رأيك هذا شيء طبيعي، لكن أن تتظاهر بأنك مع العروبة ومع هذه المفاهيم وتعمل ضدها تماما بنفس الوقت هنا يدخل عنصر الشعوبية وأسيء الحقيقة أسيء استعمال هذا الكتاب ونُسب وحاول البعض أن يدعي أن هذا يخص مذهب معين.. quot;. ويستطرد قائلا: quot; والكتاب بعيد كل البعد عن هذا.. هذا لم يخطر ببالي وليس هو موضوع الكتاب وإنما أنا أتكلم عن ناس جماعات فئات انتهازية تتظاهر بالعروبة وتتظاهر بالحرص على الإسلام وتعمل ضد ذلك هذا اللي كان قسم من هذا الكتاب وحينما ظهر كل الناس أدركت هذا ولا أحد بعدين صارت اُستغل الكتاب لأغراض أخرى وأنا خارج العراق.. quot;.

3) الكتاب المرجع لتاريخ الامة العربية:
أما القضية الأخري التي اشتركت فيها معه، فهو تكليفه من قبل منظمة الاليكسو بتحرير مشروع: quot; الكتاب المرجع لتاريخ الأمة العربية quot;. ويشهد الله ان الرجل قد عمل جاهدا من اجل إنجازه برغم كل الملابسات والصعوبات، ولكن المشروع تعّثر لاسباب شتي. اذكر انه كلفني بتقويم بعض البحوث المشاركة وأطلعني علي مشاكل لا حصر او عدّ لها !! ولما التقيت بالرجل بعد سنوات، قلت له: أخشي علي المشروع من الفشل، لأن أي مشروع موسوعي بحاجة قبل كل شيء الي سلطة معرفية من قبل المحرر العام يرسم لكل مشارك خطة منهجية في الكتابة والمشاركة، فأي بحوث موسوعية لابد أن تكون علي أقصي درجات الاختزال والمعرفة.. كل ذلك لم يتحقق، وقد سمعت بأن منظمة الالكسو قد سحبت المشروع من الاستاذ الدوري، وكلفت لجنة من اجل تحريره قبل سنين، ولا ادري ما حل بهذا المشروع العربي متمنيا ان لا يموت هكذا مشروع تحتاجه أجيالنا العربية اليوم. لقد كلفني الرجل بتقييم وتصويب العديد من البحوث نظرا للثقة العلمية التي اولاني اياها، ولقد تعبت جدا في تهذيب العديد من تلك quot; البحوث quot; التي كتبها زملاء من المؤرخين العرب، اذ قدّم بعضهم بحثا ضاربا عرض الحائط كل المنهج المتبع من كل النواحي، وطلب مني الدوري ان اختصر ذلك quot; البحث quot; من 190 صقحة الى 30، فكان عملا متعبا جدا.. ولما سألت عن سبب طول البحث، قيل لي ان الاخ الباحث وهو من بلد عربي بعيد ظن ان كل ورقة زيادة يتقاضى عليها (20 ) دولارا زيادة !!

4) تقويم الاداء وتطوير الدراسات العليا
أما المسألة الأخري التي أود تسجيلها هنا، فهي تخص ورقته الممتازة التي قدمها في إحدي الملتقيات الأكاديمية في الاردن وفي احدى قاعات الجامعة الاردنية عام 1998، والتي تخص تقويم الأداء وتطوير الدراسات العليا في العلوم التاريخية، وكنت مشاركا في جلستها الصباحية ولعل ابرع ما قدم فيها من قبل الدكتور الدوري، ولكن لم يستمع احد اليه والى مقترحاته العلمية الصائبة.. وكنت قد نشرت مقالة ساخرة عن تلك الندوة المضحكة، اذ لم يلتفت المشاركون إلي الورقة القيمة للأستاذ الدوري ولا الى آرائه، وراح بعض المغالين من المتطرفين الأغبياء ينتقد أولئك الذين يحملون مناهج المستشرقين، وقام آخر ليحّرم علي الدارسين من الطلاب العرب دراستهم للإنكليزية باعتبارها لغة الكافرين !! كان المؤرخ الاستاذ عبد الكريم غرايبه يستمع وهو يضرب كفّا بكف. خرجنا مسرعين ولم يستفد أحد شيئا من ندوة قوامها ثلة من السفهاء والجاهلين الذين شاءت الاقدار وحملوا شهادات عليا في علم التاريخ !

5) ورقة الاسكندرية للاصلاح
كم وددنا في منتدى الاصلاح العربي ان يكون الاستاذ الدوري مشاركا، ولكن المنتدى تلّقى رسالة منه يعبر فيها عن تقديره للجهود الطيبة والفعالة التي قامت بها مكتبة الإسكندرية في تنفيذ ما طلبه مؤتمر الإصلاح، وخاصة إنشاء منتدى الإصلاح العربي، ويؤكد الدكتور الدوري أنه قام في الأردن بتعريف بعض مؤسسات المجتمع المدني وبعض المعنيين بقضايا الإصلاح بوثيقة الإسكندرية. كما يؤكد أيضا تأييده لكل الجهود المبذولة في سبيل الإصلاح العربي، كما يبدي رغبته في أن يستطيع المساهمة في هذه الجهود

عبد العزيز الدوري: إنساناً ومفكراً
اولا: حاجتنا الى دراسة تجربته:
ان ثقافتنا العربية الحديثة بحاجة ماسة الى دراسة نتاج المؤرخ والمفكر عبد العزيز الدوري، نظرا لقيمتها العلمية ومكانتها الفكرية، وتقديرا لجهوده المميزة في كتابة التاريخ ورفد الحركة الثقافية بكتب مرجعية معتمدة، فضلا عن دور الرجل في تأهيل عدد كبير جدا من الدارسين والباحثين والمؤرخين والمدرسين في كل من العراق والاردن، ولدوره في ارساء قواعد الفكرة العربية ودراسة التاريخ العربي في ازهى حلقاته وعصوره.. فضلا عن دوره الذي يمثل جانبا رئيسيا من جوانب النهضة الفكرية والثقافية في الحياة العربية، ولانه من اوائل المفكرين العرب المحدثين في هذا العصر الذين تجاوزوا بما قدموه من اسهام في الفكر والتاريخ حدود منطقتنا العربية الى ارجاء اخرى من العالم.

ثانيا: التفسير القومي للتاريخ
لقد كانت حياة الرجل منتجة لا تتوقف ولم تنضب منذ بدايتها حتى يومنا هذا وتمثلت في انجازه الاكاديمي الغزير، فقد وضع عشرات الكتب والبحوث والتحقيقات في حقول التاريخ المختلفة، ومن ثّم اهتمامه بنقد المصادر وعدم الاعتماد على القراءة السردية للمراجع التاريخية، بل النظرة النقدية والتعليلية في كل ما يقرأ، كما كانت له سماته في التركيز على تاريخ الناس وتتبع طرق حياتهم وتحليل تنظيماتهم، وآخرها اهتمامه بالفكرة القومية العربية والعناية بها من خلال البحث عن جذورها التاريخية ومكوناتها، يحركه في ذلك التزامه العميق بثوابت الامة الحضارية التي دافع عنها دفاعا مستميتا، وخص كل ابرز التحديات التي واجهتنا على امتداد التاريخ العربي الاسلامي. ويصر الرجل على ان تاريخنا لم يكن عربيا لوحده، بل كان عربيا اسلاميا تمتع بنشاط وفاعلية كبرى مقارنة بتواريخ امم اخرى.

3) سجايا عبد العزيز الدوري
اما عبد العزيز الدوري انسانا، فلقد كتب زميله وصديقه القديم المؤرخ الراحل صالح احمد العلي عن الدكتور الدوري في سجاياه الاصليه وعمله، وعّده واحدا من ابرز من انجبه العراق في القرن العشرين اذ اشتهر بدفء علاقاته وطيب صداقته وحسن استقباله وكرم ضيافته.. كما كان انسانا نشيطا ودؤوبا يتميز بدقته وامانته وخصاله العلمية الرائعة. كان انسانا له مشاعره المرهفة وله قوة في معتقده وتفقده للاخرين.. ومن حسن سجاياه محبة كل معارفه وطلبته له. كما انه احب وطنه العراق حبا جما، ولم يمض اي يوم من حياته ان لم يذكره بدجلة والفرات ومدينته بغداد..

4) سمات مؤرخ حقيقي
اما اعماله، فلقد اعيدت طباعتها مرات ومرات وقد تميزت جميعها بمنهجه الخاص ومساهمته هو نفسه في تفسير الاحداث والوقائع ونقد النصوص ودرايته في نشأة وتطور علم التاريخ عند العرب.. وهو استاذ حقيقي اشتمل على حقيقتين: تواضعه كأنسان وصلابته كمعلم.. حدثني العديد من طلبته وطلابه عنه انه شديد المراس عليهم من اجل تعليمهم الطريق السوي والامانة العلمية والقدرة على قراءة الاحداث وتحليل الوقائع وتقييم الشخوص. وهو لا يتحمّل طلبته الاغبياء، فينفعل من هفواتهم وسقطاتهم وسوء تصرفاتهم نتيجة جهلهم وبلادتهم ! ولقد اكد ان كتابة التاريخ لا يمكن ان تكون خارج سياق تيارات الحاضر وهمومه، وهذا يصدق على التاريخ الاسلامية وكتابة التاريخ الحديث، فتلميذ التاريخ ابن بيئته في الاساس ينطلق من الماضي الى الحاضر وبالعكس، ويختار موضوعاته ويفسر مشاكله بمفاهيم عصره.

اللقاء الاخير: الاردن 2007

آليت ان لا تفوت فرصة زيارتي للعاصمة الاردنية عمّان، ومشاركتي في المؤتمر التأسيسي للمجلس العراقي للثقافة بتاريخ 14- 17 مايو / آيار 2007 من دون ان ازور استاذنا الدوري الذي استقبلني في مكتبه بالجامعة الاردنية على الساعة العاشرة من صباح يوم 17 مايو، وبقيت بضيافته اكثر من ساعتين.. وجدته على نفس قوامه ولكن الشيخوخة قد اخذت منه مأخذها.. لأول مرة اجده وقد عاد الى غليونه وفاتني ونحن في خضم الحديث ان أسأله عنه.. تحدّثنا عن العراق وتمزقاته واوضاعه المأساوية ومستقبله ومستقبل عروبته والجنايات التي ارتكبت بحق شعبه.. وجدت الرجل مؤمنا ايمانا صادقا بمقاومة الشعب العراقي للغزاة وقد سألني عن حوادث مأساوية في تاريخه الحديث.. ثم انتقلنا الى دور ايران واختراقاتها، ثم انتقلنا الى الحرب الطائفية التي يشعلها الطائفيون في العراق ومسئولية الاحتلال الامريكي عن كل اوضاع العراق الصعبة. رحنا نحلل ونقارن واتفقنا بأن لم تمر فترة على العراق مثل هذه الفترة، ولم يمر العراق في وضع مثل هذا في أي فترة سابقة، وكان العراقيون عبر تاريخهم دوما في تآلف ليس فقط تآلف اجتماعي تآلف اقتصادي تآلف سياسي.. ولم يتصادم العراقيون على أساس مذهبي يعني لم يكن هناك اي حرب اهلية طائفية.. لقد قام الدوري بفحص كل الفترات بما فيه الفترة البويهية.. حتى الحياة الاقتصادية كانت كأنما نسيج متآلف كل فئة عندها اهتماماتها دون تضارب بالمصالح فيما بينهم، ومن السهل علينا أن نلاحظ عوامل التمزق لم تكن ظاهرة أمامنا لكن عوامل الشد والتماسك هذه لابد ان نستقريها من دراسة التاريخ. والمؤرخ ممكن يبصر الآخرين بالأوضاع اللي يعيشوها بالظروف اللي أدت أليها ممكن يعطي مؤشرات للمستقبل إذا أستطاع أن يرى مؤشرات.. يعني أي شخص من أصحاب القلم هذا دوره وهذا يصدق على الأديب ويصدق على الآخرين من الفئات المثقفة.
انتقلنا الى تأسيس المجلس العراقي للثقافة، فبارك خطوة تأسيسه من اجل رفد الثقافة العراقية بما تحتاجه اليوم.. وقد اعلمته بأنني اقترحت على المجلس تكريم الاستاذ الدوري نظرا لقيمته العلمية والحضارية في حياتنا العراقية المعاصرة وجهودة المتنوعة على امتداد حياته.. فشكرني. دعاني للغداء معه، فاعتذرت وكانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة ظهرا، فقمت مودعا اياه

وآخر ما يمكنني قوله في نهاية رحلة هذا الرجل الرائع ان يرحمه الله رحمة واسعة، ويسكنه فسيح جنانه ويلهم ذويه واصدقائه الصبر الجميل ، وان يكون نتاجه العلمي ومنهجه التاريخي وأفكاره الحية معلما علي الطريق أمام الأجيال القادمة. لقد كان حقا عالما فاضلا وانسانا خلوقا وعراقيا صادقا.. ومن المحزن انه يرحل وهو بعيد عن ارض العراق، وقد لحق بالقافلة من رموز العراق العظام الذين لم يجدوا فرحتهم برؤية العراق عند نهاياتهم، وقد رحلوا ودفنوا في غير العراق.


www.sayyaraljamil.com

(فصلة مضافة من كتاب الدكتور سّيار الجميل: زعماء ومثقفون: ذاكرة مؤرخ)