تعرضنا في الجزء الأول من هذا المقال للخطوط العريضة للمسيرة المصرية المأمولة، بقيادة شخصية ليبرالية ذات ثقل واحترام دولي ومصري مثل د. محمد البرادعي، ونأتي الآن إلى تصوراتنا لما يمكن أن تؤول إليه مجريات الأمور في الحقبة القادمة، ولأننا لسنا أمام احتمال واحد، بل عدة احتمالات ممكنة، فإننا سنحاول أن ندرس تلك الاحتمالات أو السيناريوهات، كنوع من تدارس واكتشاف معالم الطريق:
السيناريو الأول والأكثر تفاؤلاً، وهو أن يتسع صدر النظام المصري الحالي لرغبة الجماهير في دخول البرادعي الحلبة السياسية، وسماحه له بالترشح لرئاسة الجمهورية، سواء بإجراء تعديلات دستورية تسمح للمستقلين بالترشح، دون اشتراطات هي عين المستحيل عملياً، أو بتسوية الأمر بأي طريقة ملتوية، تسمح للبرادعي بالترشح، وتقي مصر والنظام في نفس الوقت تهديد ترشح شخصية إخوانية سلفية، تقلب أرض مصر على رؤوس أهلها، وتحيل quot;جمهورية مصرquot; إلى quot;إمارة مصرستانquot;.. في هذه الحالة كما في أي سيناريو آخر، لابد وأن يقوم البرادعي وأنصاره بتأسيس حزب حقيقي، يجمع الجماهير وصفوة العلماء والأكاديميين ذوي الرؤى الحداثية، ليقوموا بعمل دراسات علمية وميدانية، تكفل تحويل الشعارات والمفاهيم المطلقة عن الحداثة والليبرالية والحرية، إلى سياسات وخطوات عملية تنفيذية، وخلال الفترة المتبقية حتى أكتوبر 2011 موعد الانتخابات الرئاسية، يكون قد ظهر على الساحة السياسية المصرية شخصيات قادرة على تنفيذ تلك السياسات والبرامج.. فمن الواضح أن شخصاً واحداً -حتى لو كان رئيساً للجمهورية- لا يستطيع أن يقوم وحدة بالتغيير المطلوب في كافة مناحي الحياة المصرية، ناهيك عن مسئولية إدارة البلاد في حالة توليه الرئاسة، التي تحتم أن يكون لديه طاقم من الكفاءات المؤمنة بتلك السياسات، والقادرة على وضعها قيد التنفيذ.
السيناريو الثاني يلي الأول في درجة التفاؤل، وهو أن يرفض النظام إجراء أي تعديلات دستورية، أو أي حلول وسطية تسمح للبرادعي بالترشح لرئاسة الجمهورية، لكنه في الوقت نفسه يسمح له ولأنصاره بالعمل في الساحة المصرية، والسماح بتأسيس حزب سياسي، سواء أقرته quot;لجنة الحجر على الأحزابquot; الحالية، أو بقي معلقاً على ذمة قضايا تؤجل باستمرار، على ذات النهج التي تتبعه حكومتنا الرشيدة وتفضله على كل ما عداه، وهو اللجوء لعدم الحسم في أي قضية، كنوع من التكتيك الذي يبقي جميع الكرات معلقة في الهواء، تتلقف منها أي كرة تشاء في أي وقت تشاء!!
في هذه الحالة لا مفر من التغلب على الإحباط الناتج عن انسداد السبل في وجه الأهداف قصيرة المدى، وهي إدخال منافس حقيقي وحداثي في الانتخابات الرئاسية القادمة، والتركيز على تأسيس قاعدة جماهيرية قوية تناصر التحديث، وإجراء حوار مجتمعي حقيقي، يحسم خلافاتنا العميقة في كافة المجالات، ويحاول أن يزيح من الساحة القضايا الغريبة أو المؤسفة، والتي تسيطر على عقول المتثاقفين الآن، لنهتم بالقضايا الجدية، التي تؤثر على مصير الوطن والمواطن.. لنحاول الشفاء من فيروسات التمحور حول جسد المرأة، وحول ما يعرف بالقضية الفلسطينية، التي مزقها أصحابها شر ممزق، وتمزقنا نحن بسببها لعدة عقود، ونحاول الشفاء من سيكولوجية العداء للعالم الحر والتوجس من مخططاته ومؤامراته المزعومة.. لنركز اهتمامنا على تنمية قدراتنا التنموية، والتعظيم من ثرواتنا، وعلى رأسها الثروة البشرية، التي هي بالحقيقة أغلب إن لم تكن كل ما نملك.. على حزب البرادعي، وليكن هو حزب quot;مصر الجديدةquot;، أن يسعى لنشر ثقافة الليبرالية على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية، والتي لابد وأن يترتب عليها تشكل ثقافة سياسية ليبرالية حقيقية، كما لابد وأن يسعى هذا الحزب للأخذ بيد الشباب الواعد أصحاب المستقبل، ليتصدروا هم الصورة والعمل، ليحلوا تدريجياً محل الرموز القديمة المتسيدة على الساحة، والتي أخشى أن أقع في شرك السبِّ العلني، لو صرحت بأنه لا أمل يرجى من معظمها!!
هذا العمل الميداني المرتجى، والذي ينبغي أن يجري في حدود الشرعية الدستورية والقانونية، وأن ينأى بنفسه عن أي تجاوزات أو عمل سري، يعطي مبرراً للسلطات لإجهاضه، بل يستغل هامش الحرية المتاح إلى أقصى حد ممكن.. مثل هذا العمل والجهد البناء والخلاق، كفيل بتحويل الصورة تماماً، لنجد الرئاسة الجديدة ndash;أياً كان اسم الرئيس- تتحرك راضية أو مرغمة نحو التغيير والتحديث.. فالقاعدة الذهبية تقول أن quot;الحكام مرآة شعوبهمquot;، ومن المؤكد أن الساحة المصرية لو تحركت نحو الحداثة والليبرالية، فلابد أن ينعكس ذلك على النظام الحاكم، وإلا أسقط نفسه بنفسه.. هكذا يمكن أن يُغْلَق الطريق على د. البرادعي لأن يكون رئيساً للجمهورية، لكن سيكون الطريق مفتوحاً له ولنا، لنقوم بثورة تغيير خضراء كلون وادي النيل، فلو تغيرت الأرض والناس، فلابد أن تتغير مصر بكل ما فيها!!
السيناريو الثالث هو أن يتخذ النظام موقفاً علنياً معادياً للحركة، لكي يحد قدر ما يستطيع من التحاق الجماهير والصفوة بها، مستعيناً برصيد الخوف وإيثار السلامة لدى المصريين، والذي انعكس على الساحة في صورة لامبالاة، تترك quot;الجمل بما حملquot; لمن يمسك بعنانه.. لكن لا يقوم النظام بالعسف بالحركة ونشطائها، بل يكتفي بالتضييق عليها، في سياسة قريبة بما يتبعه مع جماعة الإخوان المسلمين، مع الفارق بالطبع بين تكوين حركتنا العلني، وتكوين الإخوان المسلمين السري بطبيعته، والمناسب تماماً لحالة الحصار والمطاردة هذه.
في هذه الحالة سيتضح مدى صلابة الشعب المصري وطليعته المتصدية لدعوة التغيير، التي لقبناها بالثورة الخضراء.. هنا يمكن أن ينبت ويترعرع البديل الذي نطلبه من زمن ونتمناه، بديل يختلف عن قطبي السلطة والإخوان، ما يدفعنا دوماً إلى تفضيل نار السلطة عن جنة الإخوان المسلمين وما ينبثق عنهم من أفكار وتنظيمات إرهابية!!.. لا يكفي أن يتطلع شعب إلى مستقبل أفضل، بل الأهم إصراره واستعداده لبذل التضحيات لتحقيق ما يريد.. في هذه الحالة لن يكون الباب مفتوحاً ولا مغلقاً أمام الحركة، سيكون موارباً بحيث يسمح لمن يُصِرُّ على المرور أن يمر، فهل لدينا بالفعل الإصرار الكافي لكي نفرض إرادتنا، أم أن أقصى ما نستطيع هو بعض الجلبة، التي لا تلبث أن يعقبها صمت رهيب، إذا ما تم التلويح لنا بعصا، أو واجهنا عيون السلطة الحمراء؟!!
السيناريو الرابع هو السيناريو الأبعد تشاؤماً، وربما يراه البعض الأكثر احتمالاً.. أن يصل البرادعي إلى القاهرة، ليجد نفسه بهدوء وصمت وسريَّة سجين بيته، وأن تصل انذارات سرية وحاسمة لرؤوس الترويج له، تكون كافية لالتزامهم الصمت والسلامة.. قد يتم هذا بصورة فورية بعد وصول البرادعي للبلاد، وقد يتم إمهاله بعض الوقت لرصد تحركاته، فإذا ما تجاوزت الطوق فإن القبضة الفولاذية حاضرة.. وقد يُتْرَك شباب الفيبسوك ينادون ويصرخون ما شاء لهم الهوى على الصفحات الافتراضية، دون أن يسمح لأي منهم أن ينقل صراخه إلى الواقع الحقيقي في الشارع المصري.. وقد تتمادى القبضة الحديدية في الضغط، فتغلق المواقع التي تتلفظ باسم البرادعي، باعتبارها خطراً على الأمن القومي!!.. وإن استدعى الأمر حجب موقع الفيسبوك بكامله، باعتباره مؤامرة خارجية أمريكية صهيونية صليبية على وحدة مصر وسلامها السياسي والاجتماعي!!
هل نكون في مثل هذه الحالة قد انتهينا إلى فشل كامل، أو أن الحصيلة ستساوي عندها الصفر؟!!
لا أظن هذا أبداً، فالفكرة تمت زراعتها في التربة المصرية، وفي عقول وقلوب الشباب والكهول والشيوخ.. فكرة التغيير والقدرة عليه والرغبة فيه ستظل حية، لأن الأفكار الخلاقة أبداً لا تموت.. قد تنجح يد القهر في حجبها لبعض الوقت، لكنها أبداً لن تستطيع قتلها، أو تنجح في استئصالها من حيث زرعت.
التغيير قادم، ليس فقط لأننا نطلبه ونشتاق إليه، بل لأن مسيرة البشرية لن تسمح لن بأن نظل على حالتنا المتردية هذه إلى الأبد.. لابد للبشرية أن تسحبنا معها، أو حتى تجرنا جراً إلى الألفية الثالثة!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]