ميراث طويل متأصل في كياننا الاجتماعي حول وهم امتلاك الحقيقة، خاصة حينما تتعلق الأمور بالشأن الديني، فتتوهم كل جماعة منتمية إلى أي مذهب أو دين بأحقيتها المطلقة في الوجود وفناء الأخر. حلقات متواصلة من صراع مذهبي وطائفي مصابة بها حياتنا الدينية بامتياز، لها تجليات مدهشة أحياناً ومروعة في الكثير من الأحيان. صراع يأخذ شكل الحروب المقدسة يقودها المجتمع العربي المنقسم على ذاته الدينية، وجنرالات الطائفية من شيوخ وقساوسة ومرجعيات، وما استتبعهم من جنود مجندة من مثقفين وكتاب يعلنون بوعي منهم أو بدون، مناصرتهم لطائفة دون أخرى تحت عنوان المواطنة أو الحرية ـ ذات الاتجاه الواحد بالطبع ـ، أو التمايل على أنغام الحركات السياسية الدينية، إلى غير ذلك من أوهام تزيد المجتمع شتاتاً، وتعطي الممارسات الدينية شكلها الفردي المتفرد أمام تعددية الواقع الحقيقية.
فالإعلام بشتى أشكاله هو انعكاس لتناقضات المجتمع السياسية و الدينية أو حتى الأخلاقية، فتفشي مظاهر الإعلام الطائفي ـ واسمحوا لي أن أطلق عليه هذا الاسم لنهاية المقال ـ من قنوات فضائية لمواقع إلكترونية، يعكس بشكل مباشر حمى الطائفية الدينية بكل ملامحها المرضية التي أصبحنا نعاني منها في أرض الواقع، من طائفية مسيحية مسيحية، ومسيحية إسلامية، أو حتى إسلامية إسلامية. فالتدين بشتى صوره خرج من نطاق محاسبة الذات إلى نفي الأخر. والطائفية الإعلامية تتاجر بتلك الحالة إلى أبعد حدود ممكنة.
ـ الإعلام الطائفي والتبشير بالخلاص:
يعتمد الإعلام الطائفي على عنصرين أساسين، أولهما تجميل الذات إلى أبعد حد ممكن، ثانياً نفي الأخر وتكفيره وإخراجه من دائرة الرحمة الإلهية. فأغلب القنوات الشيعية مثلاً وعلى رأسها قنوات مثل الأنوار أو أهل البيت، تعمل بشكل مباشر على إعطاء صورة مثالية عن المذهب الشيعي، دون مناقشة أي اختلاف داخلي أو تاريخي، وكذلك نفي السنة بكل أشكالها، بل ومحاولة تصيد الخلافات الحادة بين مختلف التوجهات المذهبية والسياسية لدى المذاهب السنية، لرسم ملامح التشتت السني أمام التوحد الشيعي. وظهور المستبصرين أو المتشيعين الجدد وإعلانهم تبرئهم من السنة، ونمذجة التشيع إلى غير ذلك من أفكار ضدية. وتبشير مباشر بدولة المهدي التي ستأكل الأخضر واليابس إلا الشيعة وأتباع الحسين، وتحاسب التاريخ والحاضر والمستقبل.
تلك التهمة لا أبرئ منها السياق السني، بإعلامه وفضائيته الكثيرة والمتعددة هي أيضاً، مثل الرحمة والناس وغيرهما الكثير، فيخرج علينا شيوخ الإعلام السني، لمهاجمة كل من يعن لهم من متبعي المذاهب والديانات الأخرى، فيردوا على اتهامات الشيعة، ويكفروهم، مستندين على تراث مثقل بالوهم. والوعد بعالم قادم يمحي كل من هو غير سني من الوجود.
فكلا الفريقين يستند على ما يملكه من خزائن المعرفة الدينية، سواء المتواترة بالسند والجرح والتعديل لدى السنة، أو المروية والموروثة من آل البيت لدى الشيعة، دون حتى محاولة طرح كلا التراثين لنقاش منطقي.
بل قد تتحول الدفة أحياناً ضد المسيحية فنرى الشيوخ الأجلاء يحرمون مجرد تهنئة جاري المسيحي بعيد الميلاد المجيد، كما فعل محمد حسان وغيره، وتقوم الدنيا ولا تقعد في الاحتفال بعيد الحب، رغم أنه لا يمت لأي دين بأي صفة، ولكنهم يحرموه لأن أصحابه نصارى على حد تعبيرهم. مما يزيد من الأزمات الطائفية توهجاً واشتعالاً، ويكفي تعاملهم المتناقض لدى وقوع أي أزمة طائفية بين متبعي المسيحية و المسلمين، فنجدهم يزايدون على المشاعر الشعبية بإكساب مرتكبي جرائم الطائفية مشروعية ما، كما حدث في أحداث فرشوط أو نجع حمادي في مصر. المهم أن الأخر يظل منفياً، سواء شيعي أو مسيحي، فلا فرق، فمن ليس معنا علينا بالتبعية. فما تزال نظرتهم تتمحور حول فكرة أن المسلم الهندي مثلاً أفضل من جاري المسيحي.
وتنسحب نفس الأزمات الحادة على الإعلام الطائفي المسيحي، فلا يمكن إنكار دور القمس زكريا بطرس، وما يمارسه من تضليل في قناة الحياة التي تبث من الخارج على القمر الأوروبي، فنجده دائماً يحمل بين يديه كتاب إسلامي من خطايا التراث القديم، ليستخرج منه بشكل عشوائي أو انتقائي ما يتخيل أنه يصيب به الإسلام في مقتل، ليعطي صورة التخلف الكامل والرجعية الإنسانية لكل المسلمين وللإسلام، ويصف النبي محمد بكل ما يمكن أن يصف به أعدى أعداءه وهم كثير. ليقدم لنا المسيحية بوصفها الخلاص الأخير، ناسياً أو متناسياً ما تعاني منه المسيحية من طائفية داخلية، ومن تشظي تراثي أنتجه تناقضات طويلة للفكر المسيحي ذاته على مدار قرون ما زالت المسيحية تعاني منها للأن. مشيراً إلى حملات الأسلمة وما زعمه من خطف البنات المسيحيين من أسرهم وأسلمتهم بالإجبار، وكأنه غافل عن استضافة القناة ذاتها للمتنصرات والمتنصرين، ورواياتهم المقدسة عن رحلتهم إلى المسيحية، وعقد مناقشات لا تفضي إلا لتمجيد المسيحية، وتهميش ونفي الإسلام.
الكل متورط في حالة الطائفية، مجتمع وأفراد يصرون على تقديس إعلام مضلِل ومضلَل، وعمائم ولحى وقلوب سوداء، تتاجر بأحلام البسطاء، في عصر تحول فيه للأسف الدين إلى استهلاك يومي. وساسة يزيدونا تخبطاً وضلالاً. لننتظر الخلاص في أي لحظة ومن أي طرق، وبالطبع سيكون التدين بشكله الطائفي أقرب السبل، أي البحث عن الخلاص الفردي ونفي المجموع، خاصة مع تغَيُّب أو تغْيِب السياق الثقافي المتزن، وعجزه عن تقديم أي حلول بديلة.
الطائفية سبب أم نتيجة؟
ترجع أسباب تفاقم الحالة الطائفية بشتى صورها في الحياة الدينية لعدة أسباب من وجهة نظري:
أولاً//: تسييس المؤسسات الدينية الكبرى، فمحاولات الحكومات لعقود طويلة السيطرة على الواقع المؤسسي الديني متمثلاً في الأزهر مثلاً، أو الكنسية في مصر، أو حتى الحوزات الدينية كما حدث في إيران أو العراق، في محاولة منها للسيطرة على الواقع الديني، والقضاء على أي منافسة اجتماعية ممكنة، أفقد تلك المؤسسات مشروعية الفعل الاجتماعي. بحيث أصبح رجال الدين التابعون لها يفتقدون إلى المصداقية وسط الجماهير، بوصفهم متهمون دائماً بترويج أفكار الدولة وليس الدين بحد ذاته. وبالتالي تم إقصاء أي خطاب قد يبدوا معتدلاً من العقل المجتمعي، فأنتج فراغاً دينياً ضخماً، استتبعه بدائل عديدة في وقت ضئيل لا يتعدى الأربعين عاماً أي منذ مرة السبعينيات من القرن المنقضي، متجسداً في خطاب الجماعات الدينية من جهة، والدعاة الجدد من جهة أخرى، خاصة ونحن شعوب دائماً ما تحتاج إلى دليل يرشدها سواء السبيل. وهذا ينقلنا للسبب الثاني أو النتيجة الثانية إن صح التعبير.
ثانياً// غياب أي مشروع قومي يتمكن من توحيد أبناء الشعب الواحد، أياً كان، والفشل الذريع الذي نعاني منه اقتصادياً وتعليمياً وثقافياً، أدى ذلك إلى انسحاب الفرد إلى ذاته، والتمسك بميراثه الديني القديم، بشكله القديم كذلك، حنين إلى أمان مفتقد، و رِدة طفولية للفكر الإنساني في مجتمعنا، تلك الطفولية التي تستدعي العداء الفطري مع الأخر، وكل من يتخيل أو يُخيل له أنه سوف يهاجمه في الشئ الوحيد الذي يملكه وهو دينه، أو بالأصح أفكاره الخاصة عن الدين. وتأتي المرحلة الثانية، وهي التوحد مع مجموع يشبهه، وهي الجماعة الدينية أو المذهبية، فيمارس الطقوس والشعائر الدينية بشكل مبالغ فيه يصل لدرجة وسواسية أحياناً، ويستفتي في أخص خصوصيات حياته، وتتحول كل النشاطات الاجتماعية داخل السياق الديني البديل داخل الجماعات الطائفية الصغيرة. مع تغيب ملحوظ في الخطاب الديني لكل ما هو عالمي أو ثقافي بشكل عام، للتأكيد على حالة العزلة التي تعيشها المجتمعات.
ثالثا// ربط كل ما هو ثقافي أو معرفي بالمحاولات الغربية للهيمنة على الواقع العربي عامة، وبالتالي رفض كل الحلول التي يطرحها الفكر الإنساني بمعزل عن التدين الطائفي أو المذهبي، فيتم لفظ العلمانية أو أفكار الدولة المدنية التي تشكل أحد الحلول الهامة والمطروحة بقوة قي الآونة الأخيرة، لمجرد أنها منتج غربي، أو قد تسبب في الخروج من القوقعة الطائفية، فتُتهم بالكفر أو الإلحاد رغم التباين في تلك المصطلحات مع العلمانية، إلا أن تلك الاتهامات تشكل طائفية جديدة تميز كل المذاهب والأديان ضد أي فكر إنساني غريب. وإن قُبلت فهي تستخدم فقط لصالح الطائفية، كقبول بعض المثقفين المسيحيين للعلمانية كوسيلة لهدم السطوة الدينية الإسلامية، أو قبول الشيعة المستنيرين بالدولة المدنية للحد من الهيمنة السنية على بعض البلاد العربية أو الإسلامية، أو لخلافات حول مفهوم الدولة الدينية. أي استهلاك للفكرة لتكريس الطائفية وليس للخروج منها. فالخطاب الطائفي خاصة المتجلي منه على مستوى الإعلام، يتصاعد بشكل واضح كرد فعل على الخطاب العلماني خوفاً منه أو من استخدامه بشكل عكسي، غافلاً تماماً أن الخطاب العلماني أو الثقافي يعاني من التشتت وعدم القدرة على الانتشار أو التواجد لأسباب عديدة ليس السبيل لطرحها في هذا السياق.
فحياتنا الدينية صارت ضحية إعلام يداعب تضخم ذواتنا الطائفية، وفرديتنا المفرطة، التي لا تسمح بأي أخر يتمسك بالوجود، ويؤسس لحالة من التوحد بأوهام عن ماض لا نعلم عنه شيئاً، ولكن من المؤكد أنه كان أكثر رحابة وقبول بالتعددية غير مما نقله لنا القدماء أو يروج له المحدثون، وخيالات عن مستقبل ليس بقريب على الإطلاق يحقق كل طائفة أو مذهب على حدا. وقانا الله شر الانقسام و وويلات الطائفية.
أكاديمي مصري
التعليقات