من الممكن تفهّم بعض التناقضات التي ظهرت على السطح بعد 9-4-2003 في العراق في ضوء التغيير الحادّ بسبب التدخل الخارجي مع الاستحقاقات والمصاحبات التي تراكمت عبر عقود، وكانت المفارقة الاولى متعلقة quot;بالتحرير quot; فانّ الحرية بدات على نحو فوضوي واسع، الا انها تراجعت، لا بسبب التنظيم كما هي الحال في البلدان التي تشبّعت بحرياتها زمانيا وقانونيا وشعوريا، بل جاء التراجع نتيجة الشعور بخطر استعمال حق الحرية، حيث اخذت التصفيات الجسدية، التي تتبادلها عدة اطراف، تتوزع لاسباب كثيرة، ولعل احدى العلامات النوعية البارزة هنا هي في استهداف الصحفيين والعديد من الذين يتوجهون الى الرأي العام بشكل معلن حين يكون الوصول اليهم ممكنا.
لقد بدأ الناس يترددون كثيرا في استعمالهم لحق الحرية في: اللباس، والتجمع والسكن والعمل والانتقال.ثم في الاعلان المامون عن الرأي، اضافة الى القيود الجديدة التي برزت نتيجة الاحتلال وسياسة المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية وباختصار فان الحرية صارت من الحقوق التي تعاني من وقف التنفيذ على المستوى العام، ومن القيود السياسية ذات الاثر اللاسياسي.
انّ هذا التناقض (المفارقة)، لم ينتج من فراغ، ففائض القمع قد عمل سريعا في ظلّ الغياب شبه الكامل للحكومة، مع وجود المحتل الذي يهمه بالدرجة الاولى حرية حركته هو، اما حرية الاطراف المحلية فقد تتسبب الى ازعاجه.
بعبارة اخرى: ان حرية العراقيين بعد 9-4 لم تكن تعاني من النقص ولكنها كانت في سباق غير متكافئ الشروط والظروف مع فائض القمع ومضاعفاته، فقد ضاق حق الاختيار وصار استقلال الافراد نهبا للانفعال والتواطؤ الاضطراري، وهكذا صار للحرية اكثر من قناع.
اذن فانّ هذه الحصيلة quot; المؤسفة quot; لها اسباب، وقد كان نظامها المرتبك متكونا بشكل عام من: فائض القمع، الاحتلال، افكار محترفي المجموعات السرية الذين ظهروا على مسرح معقدّ، و في طريقه ايضا الى التعقيد، بصورة هواة في السياسة الرسمية لا يعرفون ndash; في احسن الظن ndash; كيفية الانسحاب من المازق، بيد انّ ايّ تحليل سيبدو الان متعجلا ما لم تتخلص المعلومات من النزعات الايديولوجية والافكار المسبقة التي تتسارع كثيرا الى لبرالية غير مسؤلة واحيانا لا تملك مبررات واضحة للاقناع. فالاحتلال ورط نفسه اكثر من مرة وجر معه حلفاءه، و صار من العسير على العراقيين ان يعيدوا عددا من الاطر التي يمكنهم الاستناد اليها، لان الاسراع من اتجاه الى اخر، لم يوفر فرصة للتفكير المتمهل، فقد تبخر الوقت مع تبديد الجهد، في حين انّ كثيرا من الاشياء كانت في حاجة الى ملامسة لا الى ارتطام وبخاصة تلك المتعلقة برأس المال الاجتماعي (الهويات الطائفية الحادة والتي يصعب الانسحاب منها دن كلفة كما كان تبنيها مكلفا وهذا، اي الانسحاب، وهذا ما يجب حسابه في اي ممارسة مقبلة فيما اذا توخينا المسؤولية...) واذا اخترنا لغة اصطلاحية، فان الحاجة الى التفكير والعمل كانت ملحة وفي مستوى الدزاين (الان وهاهنا) ليقف المجتمع على الممارسة المبدعة للحرية، التي حرم منها لعقود وكان متطلعا نحوها، الاّ انّ ما حصل كان متوزعا بين الذي لا بد من حصوله لاسباب موضوعية، وبين عدم الانتباه او الجهل بآليات تغيير النظام السياسي وأثّر ذلك على المنظومة الاجتماعية بخاصة، وبين سوء النية والاستغلال، وعلى مستوى ثان ذي صلة ,فأن quot;الاحتلال ndash; التحريرquot; افقد العراق سيادته , التي كانت منقوصة اصلا من الوجهة الاممية بعد حرب 1991, فقد اضيف قرار دولي بالولاية الاميركية على العراق , حيث لم توقع وثيقة استسلام ,وتم ترتيب مثل هذه الوثيقة بشكل ضمني بالاتفاق مع قوى متفاهمة مع الاميركيين، كما انّ الحدود الجغرافية غدت سائبة، وغاب التمثيل الديبلوماسي تقريبا، وصار البلد شانا اقليميا اكثر مما هو شأن محلي، وكان على المحتل ان يشير في لحظة ما الى عودة السيادة ثم الى توقيع الاتفاقية الامنية والاطارية، مع ما سبق ذلك من استشارة طفيفة للامم المتحدة، فنيّة في الغالب. انّ هذا الوجه الثاني من الحرية لم يعط العراقيين شعورا بانهم احرار قدر تأكدهم من ان بلدهم مستهدف اقليميا وقد اضاف هذا عبئا اخر يرتبط بالنشاط المسلّح الذي التبست فيه المقاومة بالاعمال غير المفهومة من الناحية الشعبية. وعلى كلّ حال، ليس من المتوقع ان يكون الساسة العراقيون quot; الرسميون quot; قد شعروا بايّ نوع من الاطمئنان، بله القوة داخليا او خارجيا، لولا الوجود الطاغي للمحتل الذي ربما كان يتلاعب ايضا بحركة بندولهم غير النظامية، وهذا ما يشير اليه النشاط اللغوي (الادعاءات الفضفاضة والثرثرة و التشويش اللفظي الذي ليس تحته عمل، كما يقول اسلافنا، وهو ما يجعل الكلام امرا مكروها من البداية الى النهاية ولا يدخل في عداد البرامج وذلك مما يؤسف له)

ترى ما هو نصيب الاميركان من التبعات برمتها وبسببهم، عليهم وعلى العراق؟
قبل ان نتوصل الى التناقض الفاجع، من بين مفارقات ما بعد 9-4-2003، لا بد من التذكير بخلفيات تخص الموضوع المتناقض، وهو هنا الجيش، فقد كان القادة الحزبيون المتنفذون في البعث يرون ان التسليح وحده هو حقيقة القوة، وقد بلغ هذا الرأي الارادويّ مداه بعد حرب عام 1991، وهو مرتبط دون شك بايديولوجية الانقلاب، فتوسعت التنظيمات المسلحة، وظهرالتراتب العسكري حسب اختيارات النظام (حرس خاص، حرس جمهوري.... الخ...) بصورة جعلت الضباط الذين تربوّا على عقائد موروثة غير واثقين بالمؤسسة، (كثرة عدد الهاربين، رشاوي الاجازات، الوضع الاقتصادي المزري للجنود وعوائلهم...). وادى توسع المنظمات شبه العسكرية (مثل: الجيش الشعبي، فدائيي صدام، جيش القدس...) الى ان ينخرط زهاء ثلث القادرين على حمل السلاح، والذين اجبروا على حمله، ضمن هذه المنظمات، والنسبة الكبرى من هؤلاء لا تتحلى بالانضباط، لاسباب لعل ابرزها عدم حسم موضوع الولاء او غياب المكاسب الملموسة للدفاع عنها، في ظل تدهور اقتصادي كان هؤلاء من بين ضحاياه، عدا جو عدم الثقة الذي ولدته الحوادث التي وقعت بعد اذار 1991 اثر الهزيمة العسكرية. هنا نكون عند نقطة ذات اهمية وهي ادارة هذا العدد الكبير من المسلحين وضبط ولائهم فبعد 9-4 مباشرة، القي السلاح او ذهب المسلحون الى حيث الجهات التي اعتقدوا بضرورة موالاتهم اياها. انّ اخطاء النزعة الارادية هنا تكمن في حصر مفهوم القوة بالسلاح، وليس كونه احد مظاهر القوة، الى جنب السلم والعلم والثروة... والخ..، بل ان التبجح المستمر بعديد القوات كان من بين اوجه الماساة التي تلت الاحتلال، فانهيار ذلك العدد الكبير اعطى صورة ما عن الذات المحبطة، وهي صورة غير معنية بتحليل هياكل ومضامين تلك الاعداد ومصائرها، حيث انصرف كثير منها الى الفوضى والى المجاميع المسلحة كلّ حسب انتمائه الطائفي او العقائدي او بدوافع الارتزاق. لقد كان اولئك من بين شرارات وحطب الترويع العسكري الذي يتبادله العراقيون بينهم بعد ان قرر الاميركان حل الجيش واجهزة الامن فانتج ذلك القرار تراكبا تلقائيا بين تناقضين: الاول تسريح القوات المسلحة العراقية بقضها وقضيضها لنفسها، والاخر القرار الاميركي وعقابيله، وكانت حصيلة تناقضات التراكب ملائمة لتشعبات الفوضى الهستيرية التي تمر على رؤوس الاشهاد.

نعود الى التساؤل عن نصيب الاميركان في التبعات التي ترتبت على ذلك:
لا شك ان الاميركيين يعرفون فكرة نظام البعث عن السلاح باعتباره ممثلا للقوة، كما كانوا على معرفة ما بالتركيبة المتورمة والهشة لتلك القوات المسلحة قبيل الاحتلال وبقياداتها التي زاد الازدواج من ارتباكها، فضربوا مفصل القوة محولين العمود الفقري لتلك القوات الى شئ متلاشٍ وراء قيادة غائبة. وعلى صفحة هذه المراة المتكسرة راى المجتمع نفسه، بلا رمز للقوة، حسب الثقافة المؤدلجة للبعث، وراى السلاحَ مبذولا للاستعمال حيث اسباب الفتك والمتاجرة جاهزة فبرزت قوى الفوضى البديلة ولم تفقد تلك القوة المسلحة الواسعة، بعد القرار الاميركي بحلها، املها الغريزي، ووجدت مجالا في تمثيل قوتها المطعونة، بعد ان امتلكت السلاح، والذي كان عدم امتلاكه داعيا اساسيا للانضباط في الجيش، وجدت ذلك المجال في المجاميع التي افرزت بعد الاحتلال، فانقلب بعضها على بعض، وتلقى المحتل شيئا من خطرها (المقاومات والتنظيم الانتهازي للارتزاق) ان السيناريو الذي يكتب بعد تمثيل القصة لن يكون بالدرجة نفسها من عناصر الفن: التشويق، الاقناع، التسبيب..الخ وتبقى المخيلة في حاجة الى عناصر اخرىتوجد عادة بين دفائن الوثائق وقاعات المتاحف لكنّ البانوراما ظلت تدور ست سنوات وبمعيّة عجلات الواقع ومبادئه ومسكوكاته البليغة ؛ودوافع الصدى الطويل.
ان ما نحتاج اليه بهذا الصدد هو: اعادة بناء التصورات، وخاصة ما له علاقة بأصل نشاة الدولة العراقية الحديثة والاشكالات السياسية والاجتماعية التي رافقت هذا الاصل، وعلاقة التواقت بين نشاة جيش وطني نظامي في اثناء ظروف الاحتلال بتاسيس دولة مدنية (التناظر والتكرار واضحان في التجربة الاصلية لعشرينيلت القرن الماضي ول 2003. سنحاول لاحقا اثارة هذه القضية ضمن بناء التصورات)

تنبيه: هذه المقالة كان يفترض بها ان تنشر مساء يوم الجمعة (12 آذار)، وبسبب خطأ تقني لم ننتبه الى أنها لم تنشر.. نعتذر من الزميل طهمازي على هذا الخطأ