في اللحظات التاريخية لا تظهر الاسئلة بشكلها الناضج؛ الذي يستحق اجوبة؛ على نحو مفاجئ، فللسؤال تاريخ ايضا كما ان له ظرفا يبرره، والاّ فان الذي يطرحه قد يتخلى عن تبنّيهِ وينصرف الى الضياع في اجوبة مضلِّلة، وحتى تلك الاسئلة التي لا تعدّ عامة لطابعها الخصوصي فان ظرفها هو الذي يحددها، فلو كان المرء مريضا في بيئة اعتيادية واراد الذهاب الى مستشفى فسيسأل عن المستشفى الجيد وعن اقصر طريق، اما اذا كانت الطرق غير امنة فانه لا يشترط لسؤاله المستشفى الجيد بل الطريق الآمن، وهكذا يتخلى عن تفاصيل قد تكون حاسمة في شفائه.
بعد 9-4-2003، وهو يوم نوعي ليس له مثيل في تاريخ العراق الحديث، انبثقت اسئلة، ومازالت، بعضها يتعلق بالاحتلال مباشرة، يطرحها عراقيون واميركيون وغيرهم، وكثير منها يتعلق بما سبق الاحتلال مقارنة بما بعده، ولعل اكثر الاسئلة جدية، حتى وان احاط بها نفاد الصبر والشعور المؤلم ، هي تلك التي تضع نصب عينيها الفوضى وهل كانت ضرورية،: الفوضى الاجتماعية والاخلاقية والسياسية والاقتصادية والامنية... الخ... ثم الارتباك الوطني الذي مازال قائما في حقول الفوضى المذكورة.
وتتوجه تلك الاسئلة الى الاميريكيين والى العراقيين جميعهم، سواء منهم من لعب دور الرديف السياسي للاحتلال العسكري، او لاولئك الذين تخلّوا، لسبب من الاسباب، عن الشخصية الوطنية او للذين تم اختيارهم من طرف الاميركيين للاعمال المتنوعة بشروط اليانكي وبالطمع السريع الذي ميّز بعض الاهالي، ومن الممكن ان تتناول تلك الاسئلة الحكم الثاني للبعث (: اسلوبه وتركاته)، وهل اسهم في اضعاف تلك الشخصية لصالح الحزب الذي تضاءل الى حد صيرورته ميليشيا سياسية، بعد ان كان الى درجة ما حزبا quot; مستعدا لكل شئ quot; بعبارة لينين، فقد بلغ الانتماء اليه من الناحية الكمية مستوى الحقيقة السكانية المتعلقة بالارغام والانتهازية النفعية، ولم يكن للاختيار الطوعي المجرد في الاخير الا هامش مائع في منظمات الاطفال والمراهقين وquot; المثقفين quot; المتطلعين الى دور يلعبون به . بحيث ان الاكثرية العددية اذابت الحزب وجعلت منه في الوقت نفسه ندا محرجا لبقية المواطنين، افيحق اذن السؤال: لماذا لم يستطع البعث ان يكسب الشعب في اللحظة الضرورية ؟ ولماذا عجزت شعاراته عن ان تكون وسيلة لتوحيد العراقيين الذين دفعوا دما كثيرا في اثناء حكمه وبذريعة وسبب سياساته فيما بعد؟ (وعسى ان نرى تفسيرا للاليات الذاتية يقوم به البعث للمساعدة في تعيين التطور اللاحق، من غير ان نتمادى ونطلب نقدا ذاتيا ملموسا مبدعا ومحددا. وهل تتاهل الاحزاب العربية المؤدلجة انقلابيا في التوصل الى انقلاب على الذات؟ من اجل الذات، وقبل الموضوع الذي قد يكون متاخرا من حيث الاولويات المتداخلة نسبيا (بين الذاتي والموضوعي)في الثقافة الحزبية العربية والعراقية؟ ان معرفة وجهة النظر هذه ستكون ضرورية للوقوف على عدد من الظروف غير المباشرة للاحتلال الاميركي ولعلاقات القوى التي حددت واقع بلاد بالكامل لحد الان؛ وقد ترسم اطلسها بحركات مزحزحة الخطوط لتضييع الاثر الجوهري الى اجل ما.)
ثم يرتقي السؤال درجة اعلى: هل كان الحكم عاجزا عن بناء ستراتيجية لحماية البلد بدل تراكم التكتيكات التي اتصف بها؟ وألم يكن يعرف ان ضعف الدولة والمجتمع بعد حصار 1990 كان سيؤدي الى تردي معنويات الجيش وبقية المنظمات شبه العسكرية؟
ان قسما من هذه الاسئلة سيتكرر بعد الاحتلال، مع حفظ الفارق الزمني ومضمونه التاريخي المتعين في السلطتين (: البعث وما بعد الاحتلال ، فالاحزاب الان تتكون بدءا على انها مليشيات سياسيةمستعدة لغايات محدودة كافية، كما ان تضعضع الدولة وانكسار نسقها لم يترك للجيش والقوات المسلحة الرسمية مجالا لتاسيس معنويات متصاعدة خاصة وان البنى المكونة تريد ان تبقى مرتبطة بما يسبق العقيدة العسكرية الموحدة لجيش وطني (كالطائفة والقومية والاحزاب...). اما عن الفضائح quot; الامنية quot; فابرز ما تؤكده هو العجز (او أي امر ثان لتاخير الارادة) عن بناء ستراتيجية للعمل؛ والاستعاضة عنها بالتمتع بالتكتيكات المتكررة التي لا تسمح لها الجماعات المسلحة ndash; من مختلف الاتجاهات والاغراض - حتى بالتراكم، يضاف الى ذلك تحول الجيش الى بوليس، مما يرشح البوليس ان يكون جيشا !، ففي بيئة العاصمة تمضي الحياة اليومية للمدنيين في اطار مطابق لحياة المعسكرات، بل اكثر تطرفا في التضاعيف والمضاعفات.
ترى اين ترقد الشخصية الوطنية العراقية اليوم؟ أهي في اضابير الادارة العثمانية؟ ام في ثورة العشرين وما نتج عنها ؟ ام في مجلس النواب العراقي الحالي؟ ام في التشنج الطائفي ولذائذه ومراراته؟ ام في العشائر ؟ ام في الجماعات المسلحة؟ ام في المواقف السلبية وانتظاراتها؟ ام في ثمن الحرية التي لا يحميها نظام قدر تسابقها مع الآهات؟ ام في حشرجات الشعراء العاميين ومفارقاتهم الجارحة؟ ام في الامال التي يخترقها الفساد وعلاقاته الكولونيالية؟ وخلايا المافيا؟ ام في القرارات المصيرية وظروفها الاستثنائية؟ الدستور؟ الاحزاب التي لا يسرها تشريع قوانين لها؟ ام في الحياة اليومية المتشابهة افراحا واتراحا للمواطنين الذين لم يتاكدوا بعد من مواطنيتهم؟ ام في الوعود... quot; الوعود التي هي كالديون..quot;؟ ام في كل ذلك؟ ام خارجه؟ ام هي في انتقائية هزيلة وغير ملهمة ل quot;مفكرين quot; متورطين بمشكلات ليسوا من عيارها ، وسياسيين شائطين، اولئك يعبرون عن موت الفكر ولا يعرفون مدى تاثير اضطرابهم الخاص المرافق للتداعيات العامة فنظرياتهم لا يتصل منها بالواقع أي نتفة الا لاضافة المزيد من التقطع اليه،حتى اننا لا نجد بلادا بل تصورات لا مبالية، اما السياسيون فهم يعانون من النصاب الناقص للسياسة، وتبدو المرحلة اكبر منهم جميعا، فيالتعاسة الارادة التي تصدر عن تقصير.
انه من الممكن الاجابة على هذه الاسئلة باطمئنان مامول، لو كانت السجالات تتطور في سلسلة كاملة تدحر مجموعة القوى التي تعرقل ايقاظ الشخصية الوطنية (في حال وجودها على راي من يتشككون..) لتبرهن على كونها واقعا جديدا، وبالتالي واقعا صحيحا، حيث يكون quot; الحل التاريخي لمهام معينة ممكنا وضروريا - ضروريا لان كل تقصير في الواجب التاريخي يزيد من الفوضى الضرورية ويقوم بالتحضير لمصائب اكبر ndash;quot; غرامشي.
او يتم البحث في الاتجاهات المحتملة للبوصلة العراقية والتمهل في الاجوبة مهما كانت سرعة الاسئلة وحراجة الموقف. لكن على السؤال ان لا يكفكف دموع quot; الاجوبة quot; كما تقول القصيدة.. لان ذلك سيكون تقصيرا في الواجب التاريخي...
ان الاسئلة المتكاثرة تشير الى وضع متراكب وفي طريقه الى التعقيد ايضا، وان على الذي يقوم بتحليل هذا الوضع والمباشرة بحله ان يهيئ عقلا مستعدا لأنْ يكون اشبه بمراة تعكس صور الاخرين كما تبرز فاعليته بالتمام، ذلك هو العقل والضمير الحي ّ للشخصية الوطنية، الذي سيكون بالضرورة صادقا ومتطابقا مثل هوية لا تعاني من الانشقاق ولكن تحفل بالتطلعات البينية، نحو حداثة راديكالية لا رجعة عنها.. لا اقل.. ولنقل: لا اكثر ايضا. وتبّا لغير هذا العقل الذي يجعل من موضوعنا الحميم مناسبة لتزجية الوقت وكاننا احجية كلما زاد طمرها بالطلاسم زاد ذلك العقل من عجزه عن الحل ومن عدم الاعتراف بالعجز، وزاد ايضا من استثمار عجزه، والدفاع المستميت عن المحاولة العابثة مجددا، املا في ان ننخلع عن موضوعنا.. الوحيد.. وجعله بعيدا (كان ثوري منتصر، يمكن وصفه بالقارّي، مثل ماوتسي تونغ يقول: انه كلما كان الوضع معقدا وجب على الثوري ان يكون له عقل أعقد منه، ولن يكون غريبا على غاندي لو قال ذلك ايضا، وقد كان شاعر عربي قديم يقول في قصيدة لا تتحرج من شكلها التقليدي:
الى كم حبسُها تبغي المضيقا
أثِرْها ربما وجدتْ طريقا..)