بعد وقت مبكر من 9-4-2003 طرحت قضية بناء التصورات في التداول السياسي والثقافي العامّ عند النخب العراقية المتفاوتة في درجات مواقفها من وجود القوات الاجنبية على الارض، فقد روّعت الحوادثُ واربكت الكثيرين، منذ التعرّض للمقتنيات والوثائق الاثارية والرسمية (وترحيل) اكثرها، ثم الارتطام الطائفي وتصعيده الدامي الذي نتج عنه quot;التهجيرquot; البشري، والذي فاق اثره الاجتماعي اي اثر اخر، اذا لم نحسب سلسلة التداعيات التي يمكن تعليلها، من القاء الجيش اسلحته حتى اختلاط ضمائر العديد من الافراد بالحمى الكبرى التي آذنت بالحرية، ولبثت في العملية المتمركزة حول تدمير الذات، وخلال ذلك كانت اجراءات الادارة المدنية الاميريكية التي ترافقها quot;الموافقة المضطربةquot; لبعض الحزبيين العراقيين كما لو كانوا زبناء لمعالج نفسي، على حد تعبير متعلق بآليات فرويدية، كانت الاجراءات تلك دليلا غامضا للافتعال يتبعه مستثمرو الاحتلال ليتصرفوا على اساس ان الاحتلال انما هو موافق لانقلاب محلي تمّ لصالح جهة من الشعب وعلى حساب جهة اخرى، ولم يمانع المحتلون في قوع هذا التصرف والتصور، وشيئا فشيئا ظهر ان هامش الحرية صار اضيق في الحقول الضرورية في حين تورّم في مجالات الاستغلال الانانية، وليس هذا بالامر الغريب على هذا النوع من التغيير القائم على مناسبة الاحتلال والذي يسانده حزبيون وافراد لم يصرفوا وقتا منتجا لصياغة ايديولوجيا مستقلة ومتحررة من عقد الماضي ومن احتمالات ما بعد التغيير الذي لعب فيه المحتل الدور السياسي عسكريا. صار الانتقام اوسع من كونه ثارا او فائضا غير قانوني لعدالة ناقصة؛ لقد وصل الى حدود الهاوية (ينبغي تنبيه القارئ الى ان الاعتدال في العبارات السابقة هو مسالة اسلوبية وليست وجهة نظر فحسب، والاّ فان المبادئ التي تثوي في المعاني الخلفية للعبارة هي أمتن من الممارسة اللغوية مع كون هذه امتدادا مرجوّاً لتلك).
لقد رغب الكثيرون في تشبيه ترحيل الاثار والوثائق باقتلاع الجذور، كما شبهوا انحراف الحرية نحو التخريب المادي والاجتماعي الهستيري بتهشيم مرايا المجتمع، وتاتي اهمية التشبيه بالجذور على انها شريك في الحاضر وان المرايا هي اطار نفسي للاستناد الفردي، وكلا التشبيهين يقود الى أوّل خطوة في قضية بناء التصورات الحالية حيث ينبثق سؤال جوهري مؤدّاه: هل تٌعَد الاصول ذات اهمية اكبر من المصير؟ ولا شك بان الجواب بلا سيعني ان الاولوية هي للمصير، اما الجواب بنعم فيعيدنا الى الثبات على انه السمة المميزة لمجتمعات الشرق الاوسط، تبعا للنظرة التي انبنت على وصية سليم الاول عام 1516- بعد عامين من انتصاره في معركة جال ديران - للاجيال التالية في التزام: نظام الارض نفسه، كذلك: السلّم الاجتماعي، سياسة الدولة، ودور الدين.
وبما ان الحاضر لا يمكن فهمه فهما متواصلا من خلال ذاته، وان المستقبل لم يتخذ بعد قواعده المتفق عليها، فان العودة الى الماضي (المعتبر جذورا) هي الامكان المتوافر، والذي صار وحيدا بسبب تواصله ايضا، وبهذا الوجه كانت المرايا هي الجذور، والجذور مرايا،بالرغم من الشعور بعدم الوفاء القائم بين طرفي التشبيه، ولكن يبقى المصير هو السياق الزمني للتغيير، حيث تشهد مرحلة التاسيس- ولا بُدّ - المزيد من التغيير وتقبُّله، بالخصوص اذا تضمَّن التغيير تصحيحا، لا مجرد حركات مجانية يتناوب فيها التقدم والتراجع.
التغيير الاساس هو الايعاز بالتقدم نحو الديموقراطية، وستكون الحرية المدنية، كما هو شانها في اي مكان و زمان، هي المدرسة العظمى للديموقراطية، في الوقت الذي يظهر فيه التنظيم علامة على حق الحرية وتضمّنه العميق والثري لواجبات الاحرار خلال تعايشهم في حقوقهم ولا يقاطعهم quot; التعصبُ الاخلاقي quot; في ذلك.
ان المرحلة الانتقالية، وما يسبقها، هي في التمهيد لصياغة القوانين، ثم اقرارها في مجلس تشريعي (البرلمان) وهذا المجلس هو اقرب الى المجتمع المدني منه الى المجتمع السياسي (السلطة التنفيذية)، لكن تكوين المجلس يمر عبر الحق المدني (ويلاحظ علاقة هذا الحق بالحرية) في الانتخاب، بَيْدَ ان تحويل الحق الى واجب (شرعي ديني او غيره)، يحوّل الانتخاب الى خليط من البيعة و تبعاتها على الناخب ومن الاختيار ومسؤولية المرشَّح ويصير ناتج الانتخابات مجلسا اقرب الى الحكومة، وفي حالة عدم تشكُّل الحكومة في وحدة تنفيذية، كما هو الجاري الان، يلتزم المجتمع المدني بدلالة بيعته (باعتبارها لازمة ملزمة) ويفقد حقيقة اختياره وبذلك تمتد اذرع المجتمع السياسي الى المجلس لتجذبه بعيدا عن قواعده التي من المفترض ان تكون قواعد للعلاقة والتوسط لا الارتماء نهائيا في احضان الحكومة وهكذا يعود البرلمان القهقرى الى منصة الانطلاق، كما لو ان الزمن فقد طاقته على التحريك الى الامام (التشبيه مزيج من برود ول و وليرس و هرشلاغ في ابحاثهم عن التاريخ الاقتصادي للشرق الاوسط) ان مشكلة القوانين والنزاع حولها هي اهم علامة على الفترة الانتقالية، ويقع الدستور في صلب الاجتهادات والاراء المتباينة، لانه نفسه تضمَّن وعدا لتغييره الذي يبدو ضروريا لكن المجلس يقف عاجزا، او لأي سبب اخر، عن اجراء التغيير ؛ لان المشرعين اقتربوا اكثر فاكثر من الحكومة، اي انهم ابتعدوا اكثر عن المجتمع المدني، مما جعلهم غير متحسِّسين لقضية التاسيس (او التكوين) وقابليتها على اضفاء شرعية تاريخية على التغيير في المستويات المختلفة، وهم أَولى بهذا التحسس سواء من ناخبيهم او من السلطة التنفيذية او السلطة القضائية (التي تتوسط بين البرلمان والحكومة) وربما كان الاعلام المستقل والمثقفون غير المندمجين هم الذين يشاطرونهم تلك الدرجة المفترضة من التحسس، فاذا وصل الامر بالدستور الى هذا الحد، فان عملية دفع تخوم المرحلة الانتقالية نحو الاستقرار ومنتجاته المامولة سوف تتباطأ اكثر من لوازم مرحلة التاسيس، وفي مثل هذه الظروف عادة تستغل بؤر الديكتاتورية (غير الطارئة) الفرصة لترويج دعاوتها في تخليص هذا الوضع من quot;عقمهquot; وquot;خطرهquot;. (قد ينسحب ما يراه المواطن من سوقية وابتذال بعض اعضاء البرلمان على المؤسسة نفسها وعدم جدواها ndash; بَلْهَ ضررها - وهي في اقنعة التشريع ولكل ذلك علاقة مباشرة بقواعد الانتخابات ومستلزماتها من قوانين وتعليمات واحصاء واجراءات الخ.. لتشمل السكان الذين ينضوون تحت ادارة الحكومة من اجل تمثيلهم ولو بصورة شكلية).
ان من غير الصحيح، على المستوى النقدي التاريخي، النظر الى الديموقراطية على انها اجراءات منفصلة ومتقطعة، بل هي عملية متلازمة في البداية وتكون اكثر تلازما في النتيجة، بدءا من الحرية المدنية وانتهاءا بالمؤسسات المعنية ووظائفها، دون نسيان الظرف الذي ولدت فيه آليّات ودعاية العملية السياسية في اعقاب الحكم الثاني للبعث بعد 9-4-2003، اي الاحتلال، فكانت الظروف غير نزيهة، بحكم الفرص اللا متكافئة، كما ان ndash; الاقتراع بالاقدام ndash; على حد قول احد كبار مهندسي التغيير العالمي، كان هو الطابع المميز لتولي السلطة في ظل الوجود الاجنبي وquot; استحقاقاته quot; حيث تبدو quot;طاعتهquot; اكثر اهمية من الشروط الوطنية، وسوف يظهر ذلك جليا في قضية العلاقة بين السياسة الداخلية للحكومة وسياستها الخارجية، واي منهما تقرِّر الاخرى؟ كما يظهر في quot;الاهمال الاجراميquot; للادارة الحكومية، كما في توقف الدولة عن دورها القياسي في تهذيب المجتمع السياسي. كما في التغافل المزري عن العمل بالقوانين النافذة الا عند مصالح معيَّنة لا تحددها الحقوق المدنية قدر ما تطلقها مقالات الظرف الطافحة بالتناقض العدائي.
وفي كل الاحوال، فان بناء التصورات في العراق الان، لا يمكن ان يستمر من دون تناقض، وليس هذا عيبا في ذاته، ولكن العيب هو في عدم وضع اليد على اصل التناقض او التجانس (المجرد او المدخول) بين مشروع وطني او مصالح اجنبية، وتحديد اهمية المصير على نحو عملي، وبعد ذلك لن تكون التناقضات امرا مقلقا، مادامت الارادة متجهة نحو حماية الحرية وقطع الطريق على الديكتاتورية وعلاقة كل ذلك بالوجود الاجنبي سلبا وايجابا، الان وههنا، وغدا، لان الموضوع الاقليمي اخذ بالتزايد ثقلا في الوقت الذي تتضح فيه خفة العلاقة بين السياسة الداخلية والخارجية للعراق مع الركة التي يبدو عليها المسؤولون وهم يعانون من اختبار شخصياتهم وقواهم المتكشفة ويتجرع بعضهم الدور بعيدا عن مواطنيهم قريبا من الاجانب واذا كنا اليوم نطالب بحماية الحرية... فانها هي التي ستكون ايضا احدى اهم وسائل حمايتنا حين يتشبع بها مجتمعنا المدني، باعتبارها مدرسة الديموقراطية و (الاستقلال السياسي والمعنوي..) ان كلمات متتالية هنا وهناك في غيرما اطار، سيجعل من افكارنا معرضا لحفلة نموذجية عن تنامي الخطابات المتناقضة واللامبالية التي ترمي المتناقضين حجيجا صرعى حول بئر صحراوية ملاها قطاع الطرق بالملح، لترتوي باخبار الجميع اسانيد الرواة في كتب التواريخ: كجابية الشيخ العراقيّ تفهقُ..
هنا اود ان اذكر للقارئ ان الامنيات السياسية، في سياق الصراعات والديموقراطية، هي في اغلبها طوباوية، ولن تستحصل الا على نحو نسبي، وربما مخيب، حتى في الدول الحديثة، وذلك ان انظمة الاحزاب الكبيرة وكيفيات تشكيل الحكومات الاوليغارشية لا تخضع للشعب باكمله ولا للطائفة او القوم، ولا حتى لاغلبية الاعضاء الحزبيين. اننا في الواقع امام وعود، قد تقف في مواجهة الطبيعة نفسها، ولكننا نرفع من سقف الوعود لنرى حقنا الفردي المفترض امام المجموعة، والا فان الواقعي هو نسبية الاهداف وبالتالي تقريبية ما يتحقق منها... وكل هذا مقبول اذا ما قورن بالديكتاتوريات، فحرية قليلة بعد ديكتاتورية؛ تبدو شيئا ضخما قد يخلّ كما وصفنا، بعدد من التوازنات الكسولة التي ظلت تقوم ولمدد طويلة على اساس واهٍ.
كما ان التغيير الديموقراطي قد ياخذ اشكالا مشوَّهة، ولكن هذه الاشكال، التي ربما كانت فارغة ايضا، ستظل تمثل استقطابا بين الاحزاب والانظمة الديموقراطية، مجتمعة او متفرقة في حين يدور دولاب الحياة اليومية في فضاء المجتمع المدني. ان شان فلسفة السياسة هو في تحريك الجدال للتاكد من حجم الحقيقة التي تملكها الديموقراطية ازاء الشعب، مقابل الديكتاتوريات الحكومية او اجهزة الاحزاب الكبيرة. اما عن وضعنا في العراق، فان الجدال يتمحور الان عند الاثر الذي تركه حكم البعث وما حصل بعد الاحتلال الاميركي، بسببه او بسبب اخر، مما يهدد بفساد التعبئة السياسية والعودة مجددا الى ضيق الافق الحكومي في نظرته الى الشعب من حيث كونه مشروعا للسيطرة. وهنا تبدو الوعود هي افضل ما يمكن المحافظة عليه بدل تبديدها، وعلى ضفاف هذه الوعود تتم النزهة الديموقراطية، مع بقاء الامل في عمل ارقى، يقوم الجميع على وصفه وعدم تضييعه، ولن ننسى ايضا خطر الافكار الطيبة فقد يكون نفوذها الفضفاض ضارا على المدى البعيد وبخاصة حين تفتقر الى نسغ الحياة اليومية اقتصاديا واجتماعيا وصحيا وثقافيا وتعليميا وقضائيا و...سياسيا ايضا.
في ختام هذه الملاحظات اجد مناسبا القول مع كثير من التردد في مسالة النماذج: ان الافكار الخاصة عن مجتمع العراق اليوم وعن تاريخه القريب قد لا تكون اصيلة علميا، وحتى افكار الدكتور الوردي تشوبها العاطفة،اذا حاولنا جاهدين ربطها بفلسفة ما، وتختلط بعلم اجتماع الهجرة في الفكر الامريكي (اوجبورن ونيمكوف)، ولكن ما ابغيه هو التذكير بفلسفة القرن الثامن عشر في اوربا وعلاقتها بالديموقراطية الحديثة (الفكر الاوربي في القرن 18 من مونتسكيو الى لسنج ndash; بول هازار) اما مسالة الجذور فهي مبحوثة جيدا وبثراء في اوربا واميركا (على سبيل المثال: الجذور الاجتماعية للديموقراطية والديكتاتورية ndash; بارنغتون مور) وكذلك موضوع الراسمالية والاشتراكية واليموقراطية (شومبيتر) و الاحزاب السياسية ايضا (كتاب ديفرجيه وتلاحَظ آلية التمثيل الاميركية واكتفائها الخاص مع عدم صلاحيتها للنقل) ولاشك في ان الجدال العراقي الذي يقوم به عدد من الاكاديميين المتخصصين والمعارضين والمعلقين - ولو كانوا قلقين ndash; سيفتح بابا لتلمس الحقيقة المطلوبة خارج العتمة والتي ستبقى قيد الطلب وهذه هي عظمتها في راي البشر، بالرغم لما قد يكون لما بعد الاحتلال معنى اخر متمثلَِِ بالرغبة في جعل العراق حقلا من حقول تجارب السياسة الخارجية الاميركية، من حيث انها ليست حملة تبشيرية كما يقول كيسنجر.