يشير الانتظار الى الشعور بانّ زمن الحاضر غير مكتف وغير كاف، غير مكتف بذاته وغير كاف لذاته. وقد يكون ذلك اكثرمن مجرد شعور، اذا تعلق الامر بقضايا عامة تعاني من النقص، فيتم تعبير الناس عن عدم اكتفاء زمانهم وعن الشك في كفايته بوساطة الانتظار بعد ان يئسوا من فعاليتهم ومن معاكسة الظروف ومن التيار الذي يجري في غير الاتجاه الذي أمِلوا فيه.
ولا بد من القول: ان الناس ليسوا كلهم من المنتظرين، ولكن حتى اولئك الذين يعملون لتخليص الحاضر من عقمه ومن ضرر هذا العقم، باساليب شتى، اولئك يشعرون ايضا ان الحاضر بدأ يفقد طابعه الانتقالي نحو المستقبل، وانه اخذ يندثر في ماضٍ مكين، ولم يعد يمثل بداية امتداد الى امام، بل انه يلتفت الى الوراء اكثر من تطلعه الى المستقبل، وانه حتى في حالته quot;الجيدةquot; انما يلبث في quot;موقعهquot; يدير الاعين الزئبقية في تبدده غير المنتج.
ليس هناك يأس تام وعدم اكتراث مطبق. هناك انتظار. لعلَه نوع من فعالية سلبية قد تتحول في لحظة ما الى شئ اخر. فنحن ننتظر دخول تلك اللحظة الى الحاضر فتثير خصوبته النائمة ويحدث اللقاء /المفارقة بين الطبيعة والثقافة: الخصوبة الثابتة والتقدم المستمر.
هنا ارغب ان ابدأ بتذكير القارئ، وبتحذيره، من ان يؤاخذ التعبير الادبي بدعاوى فلسفية اصطلاحية، فالادب يتفلسف، والسياسة تذهب بعيدا في تفلسفها المتناقض، والزمن نفسه تجريد، فلا هو مكتف ولا هو كاف (الا بالاختيار البنيوي للنظر بتقدمات تاريخ ظاهرة معينة في منطقة متعينة) اذا لم نحسب للمعطيات حسابها ومعناها،والناس حين يدخلون ردهة الانتظار لا يدخلونها للاسباب نفسها، ولا ينتظرون الشئ نفسه، وقد يدخلون الردهة افرادا ولكنهم يخرجون منها كتلا تضيع فيها ضمائر الافراد التي تحملق ببلادة لامتناهية وتستسلم لهستيريا لا عقلانية جارفة تختفي فيها قواعد الانطلاق وتغرق المثابات (الان الله وحده يعلم حاجة المتحزبين باسم الاسلام الى الله... على سبيل المثال) في مثل هذه اللحظات،حيث ينتظر الناس؛ ينشأ محترفون متخصصون في استغلال ما يجري من فوضى فعلية وانتظار متعارف عليه شعبيا (رزق البزازين على المعثَرات).
الملاحظة الثانية متعلقة بالمعنى العام للانتظار، والذي عاناه العراقيون ويعانون منه، فمن ناحية الكاتب: انه ينتظر من القارئ الفهم وليس السيطرة على ما هو مكتوب، فالكتابة حرية بحدود ما تتقبله او لاتتقبله تقديرات القارئ، والغرض ndash; وقد لا يكون هناك غرض نهائي ndash; هو ايصال معنى لا الاقناع،الا على نحو تقريبي. فلا الكاتب هنا يريد الاستحواذ على القارئ ولا القارئ ينبغي له استجواب الكاتب والتسلط عليه، فنحن جميعا ننتظرايضا معنى اخر؛ اي: نحن في ردهة انتظار الحوار.
الملاحظة الاخرى: لا يعني الانتظار الذي ساحاول تناوله في مقالات مقبلة مستقلة الى حد ما ومترابطة في هدفها؛ لا يعني فقط توقع quot;اليد الخفية quot; بتعبير ادم سميث التي ستصلح الاخفاقات، انه يعني هذا ويعني اشياء اخرى من بينها: ان هناك فرصة لم يتح لها ان تكتمل، كما ان هناك فرصة قد تولد، ويجب ان نحسب لها حسابا واقعيا بوضعنا ثغرة في التحليل يمكن ان تمتلئ دون قرار منا، فالمعرفة ايضا حرية على عكس التلقين والشعارات التي تتسلط حين تفكر نيابة عن quot;الجماهيرquot;، وينبغى ان يكون معلوما امامنا كما لو كنا في زيارة لمتحف، ان الانتظار كان في صلب اداء الدولة العراقية الحديثة منذ عهد فيصل الاول وكذلك في تضاعيف المجتمع، وطالما اعلن الملك بارادته وبكابته عن قلقه، كما عبرت الصحف والشعراء عن كل ذلك،وهكذا في عهد الجمهورية،ولن ننسى الانتظار الذي سبق 9/4/2003، والذي كان يعتلج ايضا في عقول عدد غير قليل من البعثيين والذين فقد قسم كبير منهم حياته او دوره بسبب quot;خرق القاعدةquot; الحزبية لارادة القيادة، فالقيادة لاتحتمل الانتظار.. انها تتصرف وتترك الاخرين ينتظرونها..او يتلقون نصيبهم الثاني، اما الانتظار اليوم فانه يستحق اكثر من تامل واكثر من تحرَش، على مستوى السياسة والمجتمع والادارة والثقافة والعالم والاقليم والوطن.. الهوية.. العنف.. المرحلة، quot;والانتظار هنا يكلَف ما تكلفه الحروبquot; كما تقول القصيدة، وقد نخرج من هذه الردهة الى ردهة اخرى او الى فضاء.. او..الى؟ ولله درّ محمود البريكان في الطريق الى الاشغال الشاقة في ختام القصيدة ونهاية الطريق.. بدايته ؟:

اربع ساعات وسوف يشرق النهار
الا على قلبي
تراكم الغبار
والحارس الجالس في صمت الى جنبي
يغلق في فظاظة نافذة القطار
عليّ ان انام، لا احب ان اطيل
تامل الوجوه
ايهٍ احس ّجهشة الاعماق في نفسي
ما اطول الطريق!
ما ابعد العالم! ما اغربه كله!
..........
..........
اعرفه، فهو طريق موحش سحيق
ولم تكد تبتدئ الرحله
*

* كتب الشاعر quot;هواجس عيسى بن ازرق في الطريق الى الاشغال الشاقة quot; بداية 1958 ونشرها في 1969