من السهل ملاحظة: انَ العراقيين موزَعون جميعهم تقريباً بين الشعور بكونهم قد أسيء اليهم وبين ذلك الفخر الذي ينتابهم، حضارياً واخلاقياً، على مستوى التاريخ القديم والحديث، ومن السهل ايضاً تقرير العلاقة بين الشعورين.
ويمكن ان تعزى الاساءة الى موارد عديدة بدءاً من الغبن الجغرافي حتى اساءة الذات الى الذات، مروراً بالغزو الاجنبي، منذ هولاكو، حيث كانت بغداد اوسع من رمز عراقي، والتفاعل مع الاحتلالات، سلباً وايجاباً، ثم علاقة السلطة بالمجتمع في التاريخ الحديث حتى 9/ 4 / 2003، وكذلك علاقة النخب الثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية بالمراتب الاخرى من ارياف ومدن واصناف.
امَا الفخر، فانَ اشهر ما فيه هو الانتساب الى حضارتين: رافدينية، واسلامية (وهذه قد يشوبها بعض الانتقاص)، وكذلك الاريحية الاخلاقية، عدا القدرة على انتاج متعلمين ومبدعين وصنَاع، وفنون استعمالية ثمَ التجاوب مع الطبيعة زراعيَا واقتصادياً وعمراناً، ويتوقف ذلك في بعض الاوقات على السياسة التي تنتهجها الحكومات وردود الفعل الذي غالباً ما كانت تحكمها الحماسة السهلة، سلباً وايجاباً، ايضاً.
انَ الذي يعتقد في نفسه الاهلية للمفاخر سيكون اكثر تحسساً للاساءة ولندب الحظ العاثر، وبشكل خاص حين يجد نفسه مضطرا الى مقارنة وضعه بما هو عليه وضع الاخرين الذين يجاورونه، فهم يتمتعون بحياة هادئة وبمجتمعات تتجه نحو التقدم والرفاهية من الناحية الاقتصادية، مع العلم انَ العراق قد سبقهم الى.... والى... وقد ينسى هؤلاء المتحسّسون امراً اساسياً هو التجانس النسبيّ الذي تحظى به مجتمعات الجيران، كما انَ هذه المجتمعات لم تخض صراعاً حاداً مع الذات كالذي حدث في عراق القرن العشرين وبداية هذا القرن، والى غير ذلك من الفوارق التي تحسب بطرائق مختلفة.
قد تكون الاساءة الاخيرة هي التي حدثت بعد 9 / 4 / 2003، وقد كانت متراكبة لدى اهل البلاد على النحو الاتي: انَ اجنبيا دخل اراضيهم واسقط حكومة لم يستطيعوا هم تغييرها طيلة 35 عاماً، وبهذا فان قوًة الاجنبي تؤكد ضعفهم، ولايعلمون الى متى تستمر هذه المعادلة، (هي حالة تشبه وضع فيصل الاول ازاء البريطانيين بعد تنصيبه ملكاً ndash; يصارع شعور الكرامة بمفهوم المصلحة)، اي: انَ سيادتهم صارت بايدي غيرهم، هذا من ناحية، اما من الناحية الاخرى فقد وقعت حوادث دامية، فوضوية، بين فئات المجتمع ادت الى نتائج (منها التهجير..) لا يعرف المجتمع انْ كانت ستتحول عللاً لنتائج اخرى..، اي: ان ضعف السلطة المحلية المعهودة ادى الى تشجيع تحرك بعض القوى على بعض، طائفياً واجتماعياً ونفسياً وسياسياً، وهذا زاد من استنجاد العراقيين بالمحتل لتخليص بعضهم من البعض بعد ان استنجد به قسم منهم للانقضاض على نظام سابق. وليس هناك ما يشير الى قياس ما وقع في الوسط العراقي: هل هو حوادث، ام ظواهر، ام حال منتقلة مرتبطة بزمن الحدث كما يقول النحاة بلطفهم الدقيق؟
انَ ما اقصد اليه هو التأزَم الجوهري ndash; بالمعنى الرثَ ndash; الذي وقع بين افراد من السنة ومثلهم من الشيعة ثم القى بآثاره على عموم الطائفتين مادياً معنوياً، ولم تستطع هاتان الطائفتان من استعمال رصيدهما الموَحد لايقاف الفتنة (من بقايا الرصيد: المدارس والجامعات، الجيش بجنوده وضباط صفه، العشائر المختلطة، ذراري الزيجات البينية - التي تشير مع العشائر الى تطلعات طائفة نحو طائفة اخرى بالمعنى الايجابي-، الاسواق، المراتب الاقتصادية بنقاباتها، الاحزاب العمومية، القومية الواحدة) كما لم تستطع بقية القوى غير العربية المسلمة من ان تلعب دوراً مأمولاً (الأكراد، التركمان، المسيحيون...وقد اصاب هؤلاء طشارُ الحوادث وطشيشها، سلبا وايجابا، حسب النيات والافعال والتاريخ المتصل والمنفصل والوعود مع المستقبل). وبدا المجتمع في مثل صورة الشبح الذي تتم المناورة عليه وحوله، وكأن الرجل الذي يقوم بالتلويح من وسط البحر يحتاج الى ما يؤكد انه ليس بغريق، كما هو تشبيه ستيف سميث، وكثيرا ما استعنت انا في جوَ الغياهب بمثالين ادبيّين: احدهما القطتان الايرلنديتان في القصة الاسطورية تتآكلان ولا يبقى منهما سوى ذيليهما، والآخر من شعر سعدي الشيرازي عن حماقة (او ظلم) ذلك الذي يريد ترميم سطح داره بتراب الاساس !.
اين موقع المجتمع العراقي الآن بالضبط؟
افي تناشز علي الوردي؟
ام في قلق فيصل الاول حول تكوين شعب؟.
ام في مسودة ميثاق كامل الجادرجي لعام 1965؟.
ام في المشروع الشعري الاصلاحي المتلازم لمعروف الرصافي منذ الدستور الاول للعراق الملكي؟
هل في الثمن الذي كان يجب ان يدفع لسقوط النظام الثاني للبعث كما تم دفعه عند صعوده؟.
ام في ديناميت الفساد المالي والاداري، الذي لم يكن وليد الاحتلال وحده؟.
ام في سلطات (تشريعية، تنفيذية، قضائية) لا تستطيع احداها ايقاف الاخرى لانه لم يتبين استقلالها بعد؟.
ام في بوصلة الحكومة التي لا نعرف اتجاهها:اهو نحو بناء الدولة ام الى خدمة مشروع قصير المدى والنظر؟.
ام في تفسير الدستور، الذي صار انتقاليا لانه ناقص القوانين، مرة تفسره عادات اللسان، ومرة تلويه بالتأويل ثقافة اللسان المتكلف؟.
ام في التحريض الانتخابي الذي يشبه الاعداد التآمري للانقلابات.....؟
(ارجوأن ينتبه القاريء الى تباين الأزمنة في الأسئلة السابقة والى انتظامها ايضاً مما له علاقة بعصابية الحوادث السياسية)
يجب ان لا تضايقنا الاسئلة... لان الاجوبة التي طالما تلقيناها مثل الصفعات هي الاكثر ازعاجا.. والتي لم نربح من خسائرها الا مزيدا من خربشات وجراح الوجدان الكاذب.. التي لم تمتلىء، منذ زهاء القرن، دماً بعد، فيما يبدو، لكي تلتئم..، كما تقول القصيدة.