في قصيدة صوتية من الشعر الشعبي أرسلت لي عبر البريد الألكتروني نسمع فيها كيف أن شاعرا عراقيا يشكو بمرارة من جحود من قام الشاعر بانتخابه ثم تركه بُعيد الانتخابات في فقر مدقع ثم عاد يسأله صوتَه في الانتخابات التالية أي بعد خمس سنواتٍ عجاف. ويضيف الشاعر في قصيدته إنه لن يُخدع هذه المرة ويعيد انتخاب نفس الشخص. ثم يرسم صورة شعرية جميلة بقدر ما هي مؤلمة حين يقول مخاطبا نفس المرشح الذي تنكر له: إنك ألصقت صورتَك الانتخابية التي كلفت مائة الف دينار وتحت الصورة جلس شخصٌ يشحذ:
quot; لازكلي صورة بمية ألف دينار وجوّه الصورة كاعد واحد يكدّي quot;.
ربما فات شاعرنا المهضوم أن انتخابه لشخص آخر قد لا يحمل له تغييرا كبيرا، وقد نشهد مرة أخرى أن من انتخبه هذه المرة أيضا سوف يتركه في فقره حتى الانتخابات القادمة، ولكن صورة المرشح ستكون المرة القادمة أكبر وتكلف ضعف سعرها.
في الوقت الذي يعاني أغلب المواطنين شظفَ العيش، جُعِل الفوز في الانتخابات في العراق وسيلة للثراء بدلا من أن يكون عبئا ومسئولية؟ هذا الثراء الذي يهبط على الفائزين يدفع بالبعض إلى اختزال الديمقراطية إلى مجرد صندوق اقتراع وليس نظاما يشمل كل مناحي الحياة.
اخفت الحكومة والأحزاب السياسية عن الناخبين رواتب ومخصصات الوزراء واعضاء البرلمان أي انها اخفت ذلك عن أولئك الذين كانوا أداة التغيير ممن عرضوا حياتهم للخطر والذي كانوا سبب صعود هذا أو ذاك إلى سدة البرلمان أو الحكومة.
كانت أول مرة يثار فيها هذا الموضوع على نطاق واسع هو المرتب التقاعدي الذي حصل عليه الدكتور محمود المشهداني رئيس البرلمان العراقي السابق بعد أن نُحّي من منصبه وخصص له مرتب تقاعدي يعادل ثلاثين ألف دولار في الشهر. ويشكل هذا الراتب التقاعدي 80 بالمائة من راتبه اثناء الخدمة أي أن الراتب كان يعادل أربعين ألف دولار شهريا تقريبا وهو، كما تشير المصادر نفسها، نفس راتب السيد رئيس مجلس الوزراء، فما هي رواتب أعضاء مجلس الرئاسة ورواتب الوزراء وأعضاء البرلمان واصحاب الدرجات الخاصة مع كامل المخصصات والإضافات، وما هو مقدار التقاعد الذي سوف يحصل عليه كل منهم بعد تقاعده أو خسارته موقعة الاداري والتشريعي؟
تدور احاديث عن أن عضو البرلمان العراقي يحصل على مرتب ومخصصات بما يعادل 20 ألف دولار شهريا، ولو صدقت التقولات التي تدور فإن هذه الرواتب والمكافئات والمخصصات تتجاوز مرتبات أعضاء البرلمان والحكومات في أكثر دول العالم ثراء. هذا اذا لم نذكر كيف أن المركز الذي يحصل عليه عضو البرلمان او الحكومة يمكّنه من الدخول في صفقات أخرى تزيد من ارباحه quot; غير المعلنة quot; اكثر من مرتبه ومخصصاته بكثير كما يعطيه الفرصة لتشغيل الأبناء والأقرباء وليس الكفوئين. كما بات مقدار التقاعد الذي يحصل عليه من يفز بدورة واحدة فقط كافيا لكي يعيش في اي دولة في العالم براتب تقاعدي يفوق معدل الراتب التقاعدي بمرات ويشكل ضمانا مدى الحياة.
ان الطريق الوحيد لقطع دابر التقولات والمضاربات هو الشفافية وإعلان الحكومة والبرلمان والأحزاب المشتركة في العملية السياسية عن مرتباتهم، فليس من اللائق اخفاء المعلومات عن الناخب الذي كان أداة صعود مندبي البرلمان، ومن الضروري تحديد سقف أعلى للرواتب.
لن يكون استباقا للأحداث أن نحيط القاريء علما بما هي عليه رواتب ومخصصات أعضاء البرلمان الأوربي مثلا. يحصل عضو البرلمان الاوربي عن النمسا أعلى المرتبات بين أقرانه ويبلغ مرتبه السنوي 114 الف يورو أي مايعادل 8160 يورو في الشهر الواحد فيما يحصل عضو البرلمان الأوربي عن لتوانيا على اقل الرواتب ومقداره 800 يورو شهريا. يضاف إلى هذا المرتب مخصصات لتغطية المصاريف تبلغ 4202 يورو شهريا وهي مخصصة لتكاليف المكتب الشخصي للمندوب بما فيه من رواتب للعاملين ونفقات مراسلات واتصالات بريدية والكترونية إضافة إلى مخصصات السفر، ويخفض مبلغ المخصصات الإدارية إلى النصف اذا ما تغيب المندوب عن نصف جلسات البرلمان الاوربي.
و حسب الموقع الالكتروني الرسمي للبرلمان الاتحادي الألماني ( البندستاغ ) فإن عضو البرلمان الإتحادي الألماني يحصل على راتب مقداره 7.668 يورو شهريا زائدا نفقات ادارة ومصاريف تبلغ 3.868 يورو حسب قانون اصلاح النظام التمثيلي للبرلمان الألماني الصادر في نوفمبر ـ تشرين الثاني من عام 2007. ومصاريف الادارة الاجمالية تشمل مصاريف مكتب عضو البرلمان الذي يكون لديه احيانا مكتبان، مكتب في برلين العاصمة حيث مقر البرلمان الإتحادي ومكتب في دائرته الانتخابية، وتشمل النفقات اجور العاملين في المكتب أو المكتبين زائدا مصاريف الايجار والاتصالات وكذلك مصاريف السفر والتنقلات التي تشمل كما شاهدنا مرارا التنقل بواسطة الطائرات.
و اذا ما اخذنا بنظر الإعتبار المصاريف الفعلية والضرائب التي يدفعها في المعدل المواطن الألماني والتي تبلغ احيانا أكثر من 45 % لغير المتزوجين فإننا سنجد ان ما يتبقى لعضو البرلمان الاتحادي لا يتجاوز في الحقيقة معدل مرتبات العاملين المؤهلين تأهيلا جيدا مثل المهندسين والاطباء العاملين بوظائف ثابتة وأساتذة الجامعات.
و لا تجاري مرتبات أبرز السياسيين في ألمانيا مثل المستشارة انجيليكا مريكل التي تحصل على مرتب يقارب من الـ 18 الفا ما يحصل عليه الرياضيون المحترفون البارزون مثل ميخائيل شوماخر ومدراء البنوك ومقدمي البرامج التلفزيونية المعروفون.
و كون رواتب ومخصصات أعضاء الهيئات التمثيلية والبرلمانية تتساوى مع أو تقترب من المعدل العام من الرواتب والأجور بعد خصم النفقات والضرائب منها امر ضروروي جدا لكي لا يصار إلى التكالب للوصول إلى الهيئات التمثيلية من اجل الاثراء.
على أن الصورة لن تكون، مع ذلك، كاملة دون مقارنة الوضع الاقتصادي في البلدان الأوربية، التي اشير إليها هنا على سبيل المقارنة، مع الوضع الاقتصادي في البلدان العربية والعراق على وجه الخصوص. فمجمل الدخل القومي لألمانيا مثلا يتجاوز بكثير مجموع الدخل القومي لكل البلدان العربية وبلدان الشرق الاوسط مجتمعة بما في ذلك الواردات النفطية في الدول العربية الأكثر ثراء أي البلدان المنتجة للنفط مجتمعة.
التحدي الآخر الذي يواجه الادارة العراقية القادمة هو تجنب الحلول التوافقية والترضيات والتأسيس لحكومة اكثرية، فقد تعالت الأصوات بعد ظهور النتائج الأولية لدى الكتل السياسية التي بات من المحتمل أن تخسر مواقعها المتقدمة داعية إلى تشكيل تحالف حكومي واسع للفائزين والخاسرين على حد سواء. يؤدي ذلك، اذا ما اعتمد، إلى الحيلولة دون تأسيس معارضة حقيقية.
إن المعارضة السياسية السلمية هي جزء مهم من الثقافة الديمقراطية من اجل المراقبة وتعديل مسار العمل الحكومي وهذا يساعد على العمل على تحقيق مصالح الناخب وعدم تجاهل مطالبه وحساب النتائج التي تترتب على تجاهل مصالحه فورا وعدم الركون إلى الراحة حتى قيام الدورة الانتخابية القادمة.
فحراك التحالفات وتقليد نزع الثقة من الحكومة الذي قد تقوده معارضة برلمانية نشيطة يجعل من الحكومة ورئيس الوزراء معرضين للتغيير قبل حلول موعد الانتخابات اللاحقة ويجعل من أداء الحكومة والمعارضة يصب في المسعى الذي يؤدي الى تحقيق اكبر قدر من المصداقية لدى الناخب بدلا من التستر المتبادل على الاخطاء طمعا في جزء اكبر من كعكة السلطة.
حكومة توافقية تعني محاصصة سواء كانت هذه المحاصصة طائفية قومية أو سياسية فإن الامر سواء والنتائج سلبية بغض النظر عن المسميات.
و كما ذكرنا في مقال سابق فإن من أساسيات الديمقراطية الحقيقية الإقرار العلني بالخسارة وتحمل المسئولية وهذا الأمر هو ممارسة شائعة في الديمقراطيات الغربية وغالبا ما تؤدي إلى استقالة زعماء الأحزاب التي تؤدي أداء سيئا في الإنتخابات دون أن نشاهد أحدا من الخاسرين يبرر الخسارة بالحديث عن الظروف الموضوعية أو اسباب تعود لعقد أو عقدين خليا من الزمان.
فهل سنشاهد بعد ظهور نتائج الانتخابات صوتا شجاعا يؤسس لتقاليد ديمقراطية حقيقية تتحمل وزر الخسارة بشجاعة؟