لا يكفي أن يكون المثقفُ و السلطة متفقين على تجاوز الواقع لكي يتعاملا مع بعضمها بانسجام، إنهما إذ يتفقان دون أن يقصدا على المبدأ، فإنهما في الغالب يختلفان حول اتجاه الحركة و محتوى الواقع المُقترح.
حين لا يكون المثقف راضيا عن الواقع القائم فإنه يمارس مهمته و يكون مخلصا لتكوينه و مهماته. إنه يدرك أو من واجبه أن يدرك أن هناك مسافة، تحتمها طبيعة المهمة، بينه و بين السلطة، كل سلطة.
الفجوةُ بين الواقع من جهة و الواقع المقترح كما تطرحه الحركة المُكتشَفة من قبل العقل الطليعي، الفجوةُ بين ما هو قائمٌ و بين ما يجب أن يقوم، لا يمكن ردمها أبدا فهي تتسع كلما ضاقت. كلُّ خطوةٍ إلى الأمام تُمارس في واقع ما، أو كنتاجٍ لأكثر أشكال السلطات ديناميكية و أكثرها استجابة للضرورات العقلية و المنطقية، تطرحُ اقتراحاتٍ جديدة مُستترة إلى حين، لكنها ممكنة الاستشراف من خلال خطوطٍ قابلة للاقتفاء تمكّن من رسم صورة استباقية. الهدف المتحرك هذا يجعل الوصول إليه مستحيلا و بذا فإن الفجوة تحافظ على نفسها باستمرار و بصيرورة لا نهائية. مع ذلك لا يكون السعيُ نحو هذا الهدف المتحرك عبثيا، كما إنه لا يلغي التقدم، بل العكس تماما، يستحثه راسما آفاقا متجددة.
هذه الحقيقة تجعل من المثقف ـ الناقد ساعيا دءوبا لإدراك (الوصول إلى) هدفٍ غيرِ قابل للإدراك (كهدف مستنفذ) فتخلق منه بذلك معارضا دائما من وجهة نظر السلطة. بهذا فإن المثقف لن يكون بوسعه أن يحط الرحال و يستريح، فمهمتُه لا تنتهي، عليه إن يكيّف نفسه لمثل هذه المهمة التي عدا إنها شاقة، جالبة للفقر و النبذ و الإقصاء و العزلة، فإنها غير قابلة للإنجاز.
لكن ليس كل مثقف يكون مدركا لمهماته أو مخلصا لها، لان امتلاكه للأدوات المعرفية التي تساهم في صياغة الوعي الجمعي لا تعني بالضرورة إنه سوف يستخدم هذه الأدوات المعرفية من اجل الهدف الذي يتوقعه المرء.
يسعى quot;مثقفونquot; إلى تعيين السلطة التي تمثلهم و يرى بعضهم أن الأوان قد آن لكي يغادر مواقعَه الناقدة و يمارسَ دورا جديدا اعتبرناه في مقال سابق: الجلوس عند قدم الخليفة، أي الطمع برضاه و كرمه. كثيرٌ من الذين يتجاوزون مرحلة إثبات الذات، تلك التي سعوا إليها في شبابهم، يعملون فيما بعد على قطف ثمار quot; الجهدquot; السابق و quot;يكفّرونquot; عن التعفف المرهق تحت طائلة التقدم في السن و غلبة الميول المحافظة و التصالحية، فيما ينظرون الى الأمام، إلى القليل المتبقي من العمر. لكن بعضهم يبقى رافعا لواء عدم المهاودة فيما اعتبره منذ بواكير حياته مهمته غير المعروضة للمساومة.
على أننا يمكن أن نقسم المثقفين حسب موقفهم من السلطة الى ثلاثة أقسام:
أولا: المثقف المتماهي مع كل سلطة.
هذا الشكل هو الأكثر انتشارا بين مثقفي العراق الآن، فنجد أن أكثر المثقفين انتفاعا من السلطة السابقة هم الأكثر انتفاعا من السلطة الحالية. و يتجلى هذا الشكل من التماهي بنموذجين:
أ ـ المثقف المّداح.
ب ـ المثقف الصامت أو quot;المحايدquot; الذي لا يدافع عن مساوئ السلطة و لا يبررها، كما
الأول، و لكنه يصمت عنها كما لو أنها لا تعنيه أو أنه لم يرَها.
و قد عززت النخبة السياسية العراقية الجديدة موقع هذا النوع من المثقفين بسبب تطيرها و فزعها من النقد لأنها تدرك أن المثقف الانتهازي لن يكون ناقدا و سيرضى عما يُطرح من أفكار و يُمارس من سلوك و سوف يعمل على تبريره بسبب أن دوافع الانتفاع لديه هي التي تحدد طبيعة نشاطه الثقافي أولا، كما أنه ذو نقاط ضعف كثيرة من السهل أن تكشف وتستخدم ضده اذا ما فكر بنقد الظواهر أو رموز السلطة ثانيا.
و في المجال الإبداعي يتمثل النموذج الثاني أي quot; المحايدquot; بأقصى درجات الذاتية و يسعى إلى تجنب الإجابة على أسئلة الواقع الراهن فتكون الرواية أو القصة خالية من أي حوار فكري أو من طرح أسئلة مصيرية و وجودية على غرار الأسئلة الكبرى التي طرحها مثلا ممثلو الرواية و الشعر الأوربي في القرن التاسع عشر و النصف الأول من القرن الماضي، و من الشائع إغراق الشكل الإبداعي بالمناجاة و المنولوج و الشكلانية الفارغة و الإثقال اللغوي المفتعل دون الوصول إلى تثوير حقيقي لوسائل التعبير.
ثانيا ـ المثقف المتماهي مع شكل من أشكال السلطة دون غيرها و هو في الغالب المثقف العقائدي أو الطائفي و الذي كان معارضا حقيقيا للنظام السابق مثلا دون أن يرى أن ثمة ما يبرر أن يكون ناقدا لشكل من أشكال السلوك السلطوي اللاحق.
يركز هذا النوع من المثقفين على هوية السلطة و ليس على سلوكها، فهو يرى أن السلطة الحالية تمثل الحزب أو الطائفة التي ينتمي إليها و بالتالي يسعى إلى غض النظر عن مقاربات واضحة المعالم لمشتركات بين سلطة و أخرى رغم اختلاف الهوية السلطوية. و يغلب هنا التركيز على ملامح فرعية و تفصيلية أو شكلية لطمس الجوهر في المقارنة بين أنظمة العسف و الديكتاتوريات.
تغلب عند هذا النوع من المثقفين صيغة التبرير و التأويل و اعتبار السلبيات من الأمور العابرة التي تحتاج إلى وقت لكي تزول دون أن يرى أن المهمة هي نقد السلبيات المؤقتة و المزمنة على حد سواء. كما أن من الشائع لدى هذا الوسط إلقاء اللوم على أطراف أخرى خارجية غير السلطة في مجمل سلوكها السلبي أو غير الكفء.
بعض أشكال الرضا عن السلطة يُغطى بغطاء من عدم الاكتراث أو اللاجدوى يرى أن قول الحقيقة، في عالم لا يمكن إصلاحه،هي مهمة دون كيشوتية.
ثالثا ـ المثقف الناقد و هو المثقف الذي يحاول أن يحتكم للحقيقة و يرصد الظواهر بغض عن الجهة التي تصدر منها و يقيمها على ضوء تأثيرها على كل ما يتعلق بالإنسان و محيطه، انه البعيد تماما عن الروح الحزبية و روحية الانتماء الضيقة التي تزين و تبرر فعل أطراف دون أخرى، إنه ينظر إلى جوهر الفعل و ليس الى الجهة الفاعلة، هو البعيد عن العقائدية و الطائفية و التحزب بكافة أشكاله، و هو في الأخير أكثر أنماط المثقفين خسرانا و عزلة.
إنه المعارض الدائم و الخاسر الدائم من وجهة نظر أقرانه.
أن نقد العالم الخارجي و ظواهره و منها السلطة ليس موجها لإصلاح الخارج بقدر ما يكون موجها في جوهره إلى الداخل لإصلاح الذات و اختبار شجاعتها و قدرتها على تجاوز أنماط التفكير ذات الطابع السياسي ـ العشائري المتحزب. عدا انه يمثل تطهيرا للذات يمر عبر المراهنة على الحقيقة حتى لو كان الثمن باهظا.