تصاعدت التطورات التي شقت المجتمع الإيراني والنخبة الحاكمة بصورة دراماتيكية في الأيام الثلاثة الأخيرة وتمثلت في تصريحات متقابلة للمرشد الأعلى الذي أكد دعمه لنتائج الانتخابات من جهة وتصريحات لرفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام النافذ وللرئيس السابق خاتمي من جهة أخرى والذين دعوا فيها الى إطلاق سراح السجناء الذي القي القبض عليهم في الانتفاضة الأخيرة والقيام باستفتاء حول مشروعية رئاسة احمدي نجاد والسماح بالصحف التي أغلقت بالصدور وغيرها.
بعيدها كان صديق إيراني معارض مقيم في ألمانيا قد قلل من شأن هذه التطورات واعتبرها تقاسما للادوار.
على أن الأمر في حقيقته ليس كما وصفه الصديق رحيمي بل انه أعمق بكثير من مجرد تمثيل أدوار. انه من باب أولى انقسام واضح المعالم قد يقرر على المدى المنظور مصير النظام السياسي الذي أعقب الثورة الإيرانية، ليس لأن مير حسين موسوي قائد ثوري خارج المألوف وليس لأنه يمتلك برنامج تغيير جذري، فهو في نهاية المطاف نتاج مؤسسة النظام وحريص على بقائه، بل لان الثورات والانتفاضات التي تساهم فيها جماهير واسعة تتطور بسرعة تبدو غير محتملة بقياس الزمن العادي ولأنها ثانيا تفرض منطقها بقوة الإرادة الموحدة للملايين التي ترى أن العيش بالطريقة القديمة لم يعد ممكنا متجاوزة بذلك حدود ما يريده قادتها.
فرض هذا التطور على مير حسين موسوي خيارين: أما أن يتبنى ما طالبت به الجماهير الواسعة من مطالب لم يكن قد حسب كاملا لمداها وسعتها، أو أن يعزل نفسه عنها لتجد لها قادة آخرين. لكنه اختار على ما يبدو الخيار الأول حتى الآن على الأقل.
إن الديمقراطية هي مشكلة كبيرة بالنسبة للذي يريد أن يعمل بها انتقائيا وجزئيا فهي لا تعرف حدودا تتوقف عندها وتطالب دائما بالمزيد وتعمل على تفجير طاقات لم تكن بالحسبان.
الاستعصاء الذي قاد إلى الأزمة الأخير يتلخص في أن الملايين من الإيرانيين قد أصبحوا مقتنعين أن إمكانية التغيير عبر الانتخابات لم تعد ممكنة فقد أثبتت الفترة التي تولى فيها خاتمي الرئاسة أن الرئيس الإصلاحي ليس بوسعه أن يطبق برنامجه الذي تعهد به للناخبين طالما أن القرار في نهاية المطاف بيد المرشد الأعلى وطالما أن المرشد الأعلى لم يمارس دوره كراعٍ محايد لرؤى مختلفة، محافظة أو أصلاحية، في طريقة إدارة الجمهورية الإسلامية.
يقتنع الناخبون الأوربيون بالخسارة وينتظرون الجولة القادمة ويعولون على آليات اخرى لتحقيق مطالبهم بالتغيير لكن طبيعة النظام السياسي الإيراني برهن على محدوديته وأن الرئيس المنتخب لا يقرر الأمور إلا اذا كانت متطابقة مع رؤى المرشد الأعلى وبذلك فإن آلية التغيير قد عطلت.
بانحيازه الصريح لأحمدي نجاد بالغ المرشد الأعلى في تقدير مدى قدرته على التأثير، فهو لا يتوفر على ذلك الحد من الكارزما الذي تمتع به قائد الثورة الخميني ولم يكن له نفس الدور التاريخي الحاسم في انتصار الثورة، لقد حَسِبَ أن الإفصاح عن رأيه ودعمه لنجاد سوف يضع حدا للجدل ويحسم الأمر ويوطده لصالحه، ما حصل هو العكس فقد عملت تصريحاته التي كان آخرها قبل يومين على تعميق الشرخ في المؤسسة السياسية للنظام بما يذكّر بدوره السابق الذي تسبب في إحباط آمال الملايين من الذي انتخبوا خاتمي بتجريده من أية إمكانية لتطبيق برنامجه الإصلاحي فتراكمت بذلك عناصر الرفض والتذمر التي لم تظهر حينها على السطح.
إن دعم المرشد الأعلى العلني لأحمدي نجاد يظهر لا واقعية وآيديولوجية الخطاب لدى كلٍ منهما إذ يتولى الرئاسة في إيران اليوم رئيس لا يتوفر على قدر من البرغماتية ويعتقد أن العناية الإلهية سوف تهرع لنجدته وقت الملمات، إنه لا يعمل بالحساب الواقعي للقوى وانما بمفاهيم مجردة عن الحق لا تأخذ بنظر الاعتبار أن دورا إقليميا لإيران لا يمكن فرضه بالقوة على المجتمع الدولي خصوصا في منطقة حساسة تتضمن بداهة حدودا للقوة لا يمكن تجاوزها.
بذا نرى أن جزءا حاسما من المشكلة الإيرانية مرتبطٌ بسياستها الخارجية ثم تداعياتها على الداخل، فالمساعدات الضخمة التي تقدمها إيران لحركات وأحزاب سياسية في الشرق الأوسط والسعي لخلق مناطق نفوذ في أكثر من بلد مجاور ترهق الاقتصاد الإيراني الذي يعاني فيه الريف على وجه الخصوص من تخلف كبير وفقر وانعدام في الخدمات، كما أن هذه السياسة تلعب دورا في تعميق عزلة إيران عن دول المنطقة وتخلق لها العديد من المشاكل معها.
تجاوز الاقتصاد الإيراني في السنوات الأخيرة المستوى الوطني وليس بوسعه تحقيق المزيد من التقدم إلا ضمن شروط العولمة ولدينا في التنازلات الآيديولوجية الصينية وتبني الخطاب الواقعي مثالٌ على الإدراك بأن الاقتصاد في بلد ما لا يمكنه ان يتطور إلى ما هو أبعد من إطار السوق المحلي إلا بالاندماج بعملية العولمة وتبني خطاب سياسي شامل مقبول وتصالحي.
أما علاقة إيران بالمجتمع الدولي منذ تولي احمدي نجاد السلطة فهي شيء آخر تماما وهي تتشابه في بعض الوجوه مع سياسة النظام السابق في العراق وعلاقته بالأسرة الدولية، اقصد مسعاه لتجاوز حدود القوة بما يزيد عن الاحتياجات الفعلية والهروب نحو الخارج كلما تعرض إلى صعوبات ولكن الفوارق موجودة أيضا.
الفارق الجوهري ان العراق لم يكن يتوفر حينها على أية قوة اجتماعية قادرة على التغيير من الداخل ناهيك عن انعدام أية أمكانية للتغيير الهادئ والسلس، اما في إيران فإن هذه الفرصة لا تزال موجودة كما أن الطبقة الوسطى وطبقة التجار تلعب دورا سياسيا واقتصاديا مهما وهي لن تقبل بالتفريط بمكاسبها المهددة بسبب سياسة حافة المغامرة الذي يعتمده احمدي نجاد.
كتب جيم هولت الجمهوري المحافظ في تحليله لنتائج حرب العراق والتحديات التي تواجهها السياسة الامريكية:
quot; تشكل موارد النفط 70% من الوارد الوطني (الإيراني) وهذا المصدر هو الذي يمول النمو في الاقتصاد الإيراني ويمكّن السلطات الإيرانية من رشوة النخبة المؤثرة في المجتمع، وفي حالة انخفاض سعر النفط الى النصف من سعره الحالي فإن النظام الإيراني سيفقد مصدرا مهما للبقاء والقوة. هبوط الأسعار الى النصف من السعر الحالي تستطيع الولايات المتحدة تحقيقه من خلال فتح إنتاج وتصدير النفط العراقي بكامل طاقته وللمدة الضرورية quot;.
كتب هولت هذا قبل حوالي ثلاث سنوات بعدها تغيرت الكثير من الأمور.
فالأزمة المالية العالمية جعلت الولاياتِ المتحدة في غنى عن الإجراء الذي اقترحه هولت لتخفيض اسعار النفط الى النصف، الأزمة هي فعلت ذلك (هذا إن كان ما اقترحه قابلا للتطبيق أصلا). واذا ما كان من المبالغ به التخمين بأن صانعي السياسة الأمريكية هم الذين تسببوا بالأزمة المالية الحالية أو سمحوا بمرورها فإن من المؤكد إن استغلال نتائج الأزمة لم يغب عن بالهم.