نظريا على الأقل من الممكن لرئيس أمريكي أبيض أن يقدم مساعداتٍ لأفريقيا السوداء ويطور العلاقة معها أكثر مما يقدمه رئيسٌ أسود، الأمر لا يتعلق بلون البشرة، لكن المثال الصارخ للرفض الجماعي (وخصوصا بين المثقفين والفنانين الأمريكيين) لسياسة آخر رئيس أمريكي ابيض قد أثمرت رئيسا أسود. واذا ما قال أحدنا إن العبرة في البرنامج الانتخابي وليس في لون البشرة فإن مرشحا آخر كان ذا برنامج متقدم مثل أل غور كان قد هُزم قبل ذلك. هذه المرة عقدت أمريكا العزم على أن يكون التغيير دراماتيكيا تماما كما كان الوضع دراماتيكيا بالمعني السيئ للكلمة في ولاية بوش. وهكذا فإن لون بشرة الرئيس لم يكن شكليا بل كان دالا على أن امريكا قد تجاوزت نفسها.
هنا في الشرق الأوسط يوجد إسقاط مقرون بالمرارة للسياسة الخارجية الأمريكية على تقييم ما يمكن وما يستحسن أن نتفهمه من الديمقراطية الأمريكية وذلك انطلاقا من مقدمات صائبة: إن هذه السياسة بعيدة كل البعد عن الحكمة. وسنقول بما أن السياسة الخارجية ليست سوى انعكاس للسياسة الداخلية فسيكون الاستنتاج الحتمي إن هذا مثل ذاك سيئ، هكذا ببساطة سنعفي أنفسنا من مهمة تفكيك عناصر الظاهرة السياسية المركبة ونعفي أنفسنا من أن نقر بحقيقة أن هذه الظاهرة ليست من صنع السلطة انما المجتمع. عدا ذلك فإن انتخاب رئيس أمريكي اسود قد برهن على إنها كآلية حكم لأقوى دولة في العالم قادرة على أن تُفعّل ما لم تكن تستطيعه هي نفسها قبل أكثر بقليل من عقد من الزمان، حينها كان كولن باول قد تعرض للتهديد بالقتل حين فكر بالترشيح لرئاسة الولايات المتحدة بعد أن أصبح الشخصَ الأكثرَ شعبية فيها بعد حرب الخليج الثانية.
بعدها كانت عوامل التغيير قد تراكمت إلى الحد الذي بلغت فيه درجة من الدراماتيكية جعلت من لون البشرة لاعبا أساسيا كجزء من كارزما أكثر شمولا: quot; دعونا إذن نجرب رئيسا ببشرة سوداء، ماذا سنخسر أكثر مما خسرنا quot;! كان الخسائر قد بلغت حدا غير مسبوق منذ فيتنام: الآلاف من القتلى والمليارات من الخسائر وأزمة مالية خانقة وسمعة انحدرت إلى الحضيض.
طفت على السطح ملامح صفقة قد عُقدت في اللحظة الأخيرة من اجل حصول أوباما على دعم أوساط من الديمقراطيين بعد أن حصل على شعبية كاسحة وبات صعوده محتما مثل دعم الزوجين كلنتون تضمنت ثوابت قائمة في السياسة الأمريكية لا يمكن ان تمس، حاليا على الأقل، وتضمنت ربما أيضا: من ينبغي يكون نائب الرئيس وأمورا أخرى قد لا يمكننا ان نعرفها قبل وقت طويل، لكنها متاحة للتخمين، انطلاقا من مقدماتها، أكثر مما لليقين.
يفتح لونُ البشرة والجذور الأفريقية الأبوابَ لعلاقة من نوع آخر بين القارة الأفريقية والولايات المتحدة. ولكن هذا سوف يبقى ضمن إطاره الرمزي اذا لم تترجم الكلمات الى فعل ملموس لانتشال القارة السوداء من الفقر والتخلف والمرض تماما كما سيبقى خطاب اوباما في القاهرة خطابا جميلا غير مقرون بالأفعال اذا ما بقيت مشكلة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية بدون حل.
إن الدور القيادي الذي لا ترغب الولايات المتحدة أن تتخلى عنه يلزمها أن تتحمل مع اوربا مساوئ هذا العالم لا أن تحصد فوائده فقط. فعالم يجمع بشكل غير مسبوق الثراءَ الفاحش والفقرَ المدقع كلٌ على جانب عدا ما هو موجود من أعمال ابادة واسعة هنا وهناك وتزايد الشقاق والتوتر بين مكوناته، بات يشكل خللا في القيم الأخلاقية لعصرنا. عدا إنه يشكل خطرا على عالمٍ بات موحدا ومتبادلَ التأثير أكثر من أي وقت سابق.
في وقت سابق حذر عزيز الحاج اوباما من الكارترية وسذاجتها. لكن التعاقب بين النسور والحمائم هو الذي يعيد التوازن لسياسة الولايات المتحدة. فما يفعله الديمقراطيون يقابله على الطرف الآخر من الجمهوريين وجمهور الناخبين رد فعل لما يعتبرونه quot; تراخيا quot; في مجتمع اعتمد ثقافة القوة والتحدي منذ التأسيس، وما يخربه الجمهوريون بسبب سياستهم quot; الحازمة quot; من علاقاتٍ مع المجتمع الدولي (روسيا والشرق الأوسط مثلا) يعيد quot; حمائم quot; الديمقراطيين إليه سلاسة الدبلوماسية أو يحاولون على الأقل.
في تبريره للسياسة الأمريكية قال كوفي عنان في واحدة من تصريحاته غير المتحفظة كأمين عام للأمم المتحدة: quot; قد يقوم المرء بالتلويح بالقوة من أجل أن لا يستخدمها quot;. لم ينتظر عنان كثيرا لكي يرى أن الولايات المتحدة لوحت بالقوة لا لكي تتجنب استخدمها بل لكي تستخدمها، لكن المقولة كما يرى البعض قد بقيت صحيحة جزئيا على الأقل: يقطف أحيانا الديمقراطيون ثمار القوة الجمهورية والجمهوريون ثمار الدبلوماسية الناعمة في تبادل للأدوار يراد منه تعاقب آلية quot; إعادة المسار إلى الوسط quot;. quot; فـ quot; المزروعاتquot; لا تعطي غلتها فورا. أمس فقط كان الرئيس الليبي معمر القذافي ضمن نخبة المجتمع الدولي في واحدة من أعلى المنابر في العالم (G8) يصافح الرؤساء بما في ذلك الرئيس اوباما.
إن الإدارات الأمريكية متفقة على أمر واحد على الأقل مهما تعاقبت واختلفت: أن تبقى الولايات المتحدة الدولة الأقوى في العالم ولو بأي ثمن. أمريكا لن تعيش بدون أن تكون البلد الأول. ستستخدم الولايات المتحدة quot; القوة من أجل الحفاظ على القوة quot; وضمن ذلك جذور القوة بمعناها الأوسع والأكثر تخفيا اقتصاديا وعسكريا.
و من اجل ذلك ينخرط العالم بأكمله في تنافس مرير من اجل التفوق الاقتصادي وبأي ثمن أيضا مما يقرب كوكبنا من نقطة اللاعودة في سيره نحو حتفه، هذا ما يفسر النتائج المتواضعة لقمة الثمانية في مجال البيئة.
يرفض الملِّوثُ الأكبر لكوكبنا، الولايات المتحدة، حتى بشخص رئيسها الجديد ووعوده الانتخابية، اتخاذ إجراءات واسعة وحاسمة لحماية البيئة، فهذا سيعطي المنافسين فرصة أفضل للاقتراب من التفوق الأمريكي وربما تجاوزه من قبل الصين على سبيل المثال. الحيوية التي امتاز بها الاقتصاد الصيني أقلقت مبكرا مفكرا امريكيا من طراز كيسنجر ترقى مقالاته وتحليلاته القصيرة والمركزة إلى مستوى ستراتيجية مستقبلية.
سيحاول الأمريكيون توزيع عبئ التكاليف من أجل بيئة أفضل على اقتصاد بلدان أخرى قد تستفيد من ارتفاع تكاليف منتجات البلدان المنافسة في السوق المعولم وقبل ذلك ستكون حسابات التفوق والقوة حاضرة قبل غيرها.
ما بين الترشيح للرئاسة والرئاسة نفسها بون شاسع خصوصا بعد أن يعرض الإستراتيجيون على الرئيس ما لا يمكن أن يكون متاحا له قبل أن يصبح رئيسا لكي يجد إنه كمرشح للرئاسة لم يكن يعرف الكثير.

[email protected]