حوار بين الفن و السطلة

في حواره مع خالد السلطاني حول جدوى اعادة نصب الجندي المجهول السابق إلى سابق مكانه أشار سهيل سامي نادر إلى الخصائص التكونية لكلا النصبين عرضا و دون ان يجعل منها الحكم الفصل الذي سيقرر فيما اذا كان هذا المعيار مع كامل ارتباطاته و ابعاده الاجتماعية و السياسية هو الذي يجب ان يحسم الجدل، بدلا عن ذلك جرى الحديث عن الجوانب الاجرائية و الاسلوب الذي اتبعه رفعت الجادرجي في عمله على اعادة النصب إلى الحياة.
القضية تحتاج إلى اكبر قدر من التبسيط : هناك عمل معماري ذو دلالات و ابعاد قد ازيل دون ادنى مبرر و أن اعادته لا تعدو أن تكون إعادة عمل فني إلى سابق مكانته.
سينطوي اجراء الاعادة، لو تحقق، على أبعاد رمزية هي : أن السلطات الإدارية يجب ان لا تشعر بأن ايديها مطلقة في ازالة عمل معماري او فني بقرار اداري، وسيكون الأمر اكثر جدوى لو ان النقاد و المختصين ناقشوا الفورات السياسية التي ادت الى ازالة منحوتات و تماثيل و نصب بسبب عدم اتفاق هذه الطرف السياسي أو ذاك على محتواها، لدينا تجربة أوربا الثرية في اعادة النصب و الاعمال الفنية و المعمارية الى مكانها السابق بعد ان تضررت أو أزيلت بفعل الحروب و القرارات الفوقية التعسفية.
أما المقارنة بين ما جرى في عهد النهضة و علاقته بفن الإغريق على اعتبار أنه نوع من البعث الثقافي فلم تأخذ بالإعتبار الفترة الزمنية الطويلة التي تفصل بين العصرين مقارنة مع ما يقارب خمسة و عشرين عاما منذ أزيل النصب، كما انها لم تأخذ بنظر الإعتبار طبيعة المهمة التي نتصدى لها.
فناني عصر النهضة كان مهتمين بتأسيس فنهم الخاص و لم تكن مهمتهم اعادة كل ما زال و اندثر من النصب و المنجزات المعمارية لسبب أو لآخر من فن الإغريق. هذه المهمة هي مهمة بيروقراطية و ادارية تحتاج الى تخصيصات و امكانيات مرتبط بالسلطة و يلعب الفنانون دورا تكميليا فيها.
تعمير الانسان بدلا من الإهتمام بالنصب المزالة هذا هو المطلب الأكثر إلحاحا ؟ نعم صحيح، و لكن أي انسان هذا الذي نقصده ؟ الانسان الذي يعيش معلقا في الفضاء... الانسان المجرد من الارتباط بمحيطه ؟ أليس إصلاح المحيط المدمر هي المهمة التي لا يمكن إغفالها اذا ما اردنا حقا ان ننقذ الإنسان ؟
الاستخفاف بمحيط الإنسان ازدراء الجانب الجمالي في حياته العدوان المستمر على المساحات الخضراء هي من خصائص الأنظمة التي تزدري الانسان، و اذا ما اردنا ان نهتم بالانسان فعلينا ان لا نفصل بين بناء شخصيته و توفير محيط صحي له بما في ذلك ما يحيط به من اعمال فنية في عاصمة تفتقر كثيرا اليها و يغلفها بشكل متزايد اللون الرمادي القاتم.

*****
على امتداد ما يقارب كيلومتر واحد من شارع السعدون بدءا بساحة التحرير في بغداد حتى مفرق الكرادة الذي سمي فيما بعد بساحة كهرمانة كانت توجد ثلاثة نصب : نصب الحرية لجواد سليم، نصب الجندي المجهول لمصممه المعماري العراقي رفعت الجادرجي ثم نصب كهرمانه الذي اقيم لاحقا لمحمد غني حكمت. أزيل نصب الجندي المجهول لدوافع متشابكة سنتناولها، و أحبطت لحسن الحظ لسبب أو لآخر نوايا معلنة لإزاحة نصب الحرية، أما كهرمانة ( الحيادية من وجهة نظر السلطات على الأقل ) فقد كُتِب عنها في إحدى صحف السبعينات، ربما من قبل سلوى زكو، مقالٌ بعنوان مقارب لما يلي : quot; هل توجد قيمة حضارية في صب الزيت المغلي على الناس ؟ quot; في إشارة الى اصل الأسطورة التي بموجبها صبت كهرمانة زيتا مغليا على ( الأربعين حرامي ) المختبئين في الجرار. أهمل المقال كامل التكوين الرائع ونسق الجرار العديدة التي تجنب بها محمد غني حكمت مونوتونا كان يبدو لا مفر منه و أمسك المقال بدلا من ذلك بخلفية الحدث التاريخي و اهتم ليس بالتكوين المعاصر انما بما هو ايديولوجي و أخلاقي على حساب ما هو تشكيلي.
لم تكن ازاحة النصب و التماثيل و مسح الذاكرة السابقة و تأسيس ذاكرة جديدة من خصائص السلطات وحدها، فلم اسمع ان حزبا أو شخصية سياسية قد بصّروا الغوغاء اثناء الثورات خصوصا بما يلي : أن الأنظمة تتغير و لكن النصب و الآثار الفنية تحتوى على قيمة أخرى ابعد من رموزها السياسية، و هكذا أزيل تمثال الملك فيصل الأول الذي اعتبر رمزا للطغيان !! و ظهر صحف ما بعد الرابع عشر من تموز تحمل في صفحاتها الاولى صورا quot; للجماهير quot; التي هدت صروح الطغيان و العمالة !! إما تمثال مود الذي تقبلنا اليوم أخلافه كمحررين فقد أطيح به هو الآخر و ضربت عرض الحائط ادعاءاته بأنه جاء محررا لا فاتحا.
لو ان اوربا مسحت ما تركته الانظمة القديمة المتصارعة من آثار و معمار و نصب لخلت ايطاليا و فرنسا و المانيا و غيرها من كل الاثار المعمارية و الفنية. لقد قامت على الضد من ذلك باعادة النصب و الاعمال الفنية المزالة كلما كان ذلك متاحا. لم يمسح من الذاكرة كونشرتو البيانو الخامس لبتهوفن الذي اهداه الى نابوليون حتى بعد ان سحب بتهوفن الاهداء و ألغى التكريس بعد أن وجد ان نابليون تحول إلى طاغية و لم يعد محررا و بقيت واحدة من اجمل ا لمقطوعات الموسيقية التي انتجتها البشرية تتألق بقيمتها العامة، قيمتها الفنية على وجه الحصر.
إن إعادة نصب الجندي المجهول الى سابق مكانه لا يمت بصلة الى النوستالجيا التي هي ليست مثلبة على اية حال خصوصا و ان وضعنا الراهن كما تعودنا ليس افضل من وضعنا السابق و ان الراهن افضل مما هو قادم، إنه من باب اولى إعادة الوضع إلى ما كان عليه و الرد على عمل همجي ارتكب بدم بارد.
****
كانت هناك على الأقل ثلاثة دوافع دفعت بالنظام إلى استبدال نصب الجندي المجهول السابق ثم إزالته تماما :
1 ـ ولع الانظمة الديكتاتورية بالنصبية و الضخامة و العدوانية التي تمثلت بشكل ظاهر في الاعمال المعمارية التي يسهل رصدها باعتبارها اعمالا مرئية و معروضة دائما على الناس تهدف إلى القاء اكبر قدر من الرعب و الرهبة في قلب المواطن على غرار كنائس القرون الوسطى التي تذكر الرعية دائما بغضب الله و ممثله على الأرض و قد تناغمت مع هذا العديد من المشاريع و القصور الرئاسية و الجوامع التي اهتمت بما هو أكبر و ما هو أضخم و ما هو أعلى.
ساد بغدادَ و المدنَ العراقية ذوقٌ بديل عن ذوق الطبقة الوسطى، المعماري منه على وجه الخصوص، هذا الطراز المتواضع و الحميمي الذي ساد بغداد منذ الخمسينات حتى بقاياه في نهاية السبعينات. فبيوت السادة الجدد لا تستجيب للوظيفة و الجمال و الاستقرار الروحي كما فعلت بيوت ابناء الطبقة الوسطى إنما كانت موجهة كليا للخارج، للناس من اجل تحقيق الوجاهة التي تحقق المزيد من النفوذ و الاستفزاز و الاقصاء. ثمة مباراة محمومة على نطاق أصغر قليلا من مباراة قادة النظام مع نظراءهم في الاستهلاك غير العقلاني للمساحة و كميات كبيرة من السيراميك الرخام و المواد الباذخة ذات الطابع التظاهري الادعائي ( pretentious )و ضخامة غير مبررة و انحطاط في الذوق غير مسبوق لبيوت بنيت ( و لا تزال ) من سرقات المال العام كتب على مداخلها : quot; هذا من فضل ربي quot;.
و لكي يبدو العمل الجديد متماشيا مع عظمة النظام كان على العمل ان يكون باذخا عدوانيا و متبخترا. لم تكن هذه الأمور من طبيعة فنان مثل خالد الرحال، و لكنه عرف كيف يسوّق بضاعته لسلطة مستعدة ان تدفع بسخاء لمن يرغب أن يجاري رغباتها.
2 ـ يهدف اختيار موقع الجندي المجهول الجديد إلى الانعزال عن عامة الناس و التواجد ضمن مجمع واسع متكامل لمؤسسات النظام تسهل حمايته خصوصا في اوقات المناسبات المعروفة توقيتاتها مسبقا. اصبح ذلك بشكل متزايد رمزا للعزلة المتزايدة للنظام لا شك ان هذه الخاصية بذاتها راقت لممثلي سلطتنا الجديدة.
3 ـ جرت عملية إلغاء الجندي المجهول القديم ضمن سياق عام لمحو الذاكرة و تخليد النظام باعتباره البداية الحقيقية للعراق المعاصر و عدم احترام الماضي القريب على وجه الخصوص و قد جرت اعمال ازالة آثار كثيرة كان يفترض بها ان تبقى و أن يتحول بعضها إلى متاحف مثل سجن بغداد، جسر الصرافية قلعة كركوك مدينة عانه.. الخ. و قد رممت بعض الآثار القديمة دون مراعاة لمتطلبات الشكل القديم . و جرى محو طابع المدن العراقية التي نشأت و تفردت انسجاما مع بيئتها مثل مناطق البيوت القديمة في احياء بغداد و الكاظمية و في حي العمارة في النجف، و تم تحويل المدن إلى نسخ متشابهة. كما مسحت من قبل ملاكي الاراضي الجدد الكثير من المواقع الاثرية ذات القيمة العالية بعد ان اطلقت ايديهم لزارعة مساحات واسعة لمواجهة الحصار. وجرى تهريب الآثار العراقية من قبل مافيات معروفة اتخذت من بعض مناطق بغداد مسرحا لنشاطها شبه العلني.
و قد واجهت الاعمال التي انجزت في عهد ما بعد الرابع عشر من تموز نفورا خاصا من قبل ممثلي السلطة السابقة و كان نصب الجندي المجهول يذكر دائما بقادتها، فقد حورت حمامات السلام مثلا في جدارية فائق حسن التي لا تبعد كثيرا عن نصب الحرية لكي تكون كرات صغيرة في ايدي حامليها و لكن الجدارية نفسها لم تهدم على الأقل.
علينا ان نتسائل : ماذا لو السلطات ازالت فعلا نصب الحرية لجواد سليم ؟ هل سنستسلم للأمر أم سندعو اعتمادا على الوثائق و الصور إلى اعادة النصب ؟
لم تراعِ مدينة بغداد في توسعها هيبة عمل مثل نصب الحرية لجواد سليم و لا احترمت الفضاء الضروري الذي يجب ان يحفظ، لم يكن نفق التحرير سوى احد الامثلة على أن الفضاء الضروري لنصب مثل نصب الحرية قد قلص و قلصت الفرص لتأمل النصب من البعد و الوضع المناسب. على المدينة أن تراعي النصب و الاعمال الفنية و ليس، العكس يتطلب الأمر تثبيت محرمات كلما تعلق الامر بالاعمال الفينة و المعمارية و المساحات الخضراء على اقل تقدير.
ليس نصب الجندي المجهول السابق هو الذي ينبغي أن يعاد الى مكانه احتراما للجهد الابداعي و منعا للمزيد من الازدراء البيروقراطي للمنجزات الفنية فحسب بل المطلوب خطة اوسع بكثير لاعادة الكثير من الملامح لمدينة بغداد التي عانت و لا تزال من الكثير من القرارات الفوقية و ازدراء المنجز الفني.
ان الذهنية التي ازالت رأس ابو جعفر المنصور هي نفس الذهنية التي ازالت نصب الجندي المجهول و هي نفسها التي تصدت لتمثال الملك فيصل الاول و هي التي سوف تبقى نفسها في الجوهر رغم اختلاف اللبوس التي سوف تتلبسها تحت واجهة تغليب ما هو سياسي على ما هو ابداعي و ازدراء الجهد الفني.
[email protected]