كان الهدفُ من مقاليquot; إيران، سلطة المرشد الأعلى على المحكquot; المنشور في quot;إيلافquot;، تحليلَ عناصر الواقع السياسي في إيران بحيادية و بأقل قدرٍ من الأحكام الجاهزة و الانطباعات المسبقة. لكن المواضيع التي تنقد أنظمة سياسية في المنطقة تُترجم خطأً على أنها ذاتُ علاقة بمعتقدات الناس، دينيةً كانت أو طائفية أو فكرية.. الخ. كان منتظرا أن يعمد القارئ إلى الفصل بين المعتقد و الرأي من جهة و نظام الحكم من جهة أخرى. فالأنظمة السياسية لا تمثل المعتقدات إنما تحاول ذلك في أحسن الأحوال. المسافة بين السلطة و المعتقد كبيرة جدا، فمتطلبات المبادئ غالبا ما تنسفها آليات السلطة و متطلباتها حتى لو كان على رأس السلطة اشدُ المخلصين لها.
و بما أن أنصارَ نظامٍ سياسي ما هم في الغالب أكثرُ مَلَكيّةً من الملك، فإن المدافعين عن النظام السوفيتي من غير أبناء الشعوب السوفييتية مثلا كانوا قد استماتوا في الدفاع عنه و نفوا سلبياتِه و أخطاءَه أكثر بكثير مما فعل المواطنون السوفييت أنفسُهم حتى سقوطه، رغم أن المواطنَ السوفييتي يعرف أكثر من الأنصار المتحمسين نقاط الضعف في النظام، فهو الذي يعيش هناك و هو الذي يكون دائما على تماسٍ مع المشاكل الداخلية. و عُومل ناقدو الإتحاد السوفييتي من قبل أنصار متعصبين حتى في بلدان تبعد عنه كثيرا بعداء شديد.
في السبعينات وجد يساريٌ عراقي أن الواجبَ الاممي يُلزمه أن يدافع عن الصناعة السوفييتية، فدخل في جدل كاد يتحول إلى تماسك بالأيدي مع سائق سيارة تبّرمَ من سيارته المسكوفتش و انتقد صناعتها.
و تستمع بعض السلطات أحيانا للنقد و تدرسه بشكل علني أو صامت و ربما تراجع سياستها برويةٍ، و لكن الأنصار المتعصبين الذين لا يرغبون أن يَرَوا أي مثلبة في النظام ينحازون إليه و يهللون quot; للقادة الخارقين quot; كما فعلت أوساطٌ من الجماهير العربية لقادة قوميين عرب أغشى التهليلُ و الهتافُ بصيرتَهم و قادهم الى حتفهم فلم يرو الخطرَ المحدق بهم و بشعوبهم رغم إنهم كانوا يقفون على حافة الهاوية حتى سقوطهم المريع و بذا فإن المتعاطفين و المحبين قد قادوا النظام أو الشخصية التي يحبونها إلى حتفهم.
و يعمل مناصرو نظامٍ ما على تجاهل قطاعات واسعة من شعب ذلك البلد تقاسي تحت حكم حاكمٍ ما أو لا تتفق مع سياسته، فيغلّب مناصرو النظام جوانبَ مجتزأةً من سياسته تروق لهم، سياسته الخارجية فقط مثلا، و ينصرفون عن النظر إلى آلام مواطنيه، و لا يرغبون سماعَ أي رأيٍ مناقضٍ أو ناقدٍ و يهملون أن المعيار المهم هو قبل كل شيء موقف النظام من مواطنيه.
و في هذا السياق عكست بعض الردود و التعليقات ما يمكن اعتباره أن هناك من مناصري (إيران) من يرى أن عليه أن يعتبر أن إيران هي إيران النظام فقط و أن يناصر (إيران) الرسمية دون (إيران) الشعبية رغم أن هذا البعض لا شك يرى، كما نرى، أن المتصارعين و المتجادلين.. المتظاهرين و قوى الأمن.. مناصري السلطة و خصومَها... الخ، هم جميعا إيرانيون. و بدلا من تحليل الأزمة تكلم البعض عن منجزات علمية إيرانية لم يقم احد بالتقليل من شأنها أو إنكارها. و في الوقت الذي كنّا نتحدث عن النظام السياسي و مشاكلِه و إشكالاته البنيوية يخرج البعض عن السياق فيتحدث عن قدرة إيران العلمية ضمن أشياء أخرى على استنساخ العجول!!
ها أن الأخبار تتحدث عن استنساخ عجل آخر، و لكن الأزمة السياسية باقية بل و تتفاقم و لم يقم العجل المستنسخ بحل الأزمة.
و إذا ما كنا لم نتجاهل المنجزات العلمية و الفنية في إيران فإننا نسأل: هل أن هذه المنجزاتِ هي من صنع الشعب أم الحكومة؟ الم يشارك المعارضون لأحمدي نجاد و المتفقون مع سياسته... و مؤيدون و معارضون لمير حسين موسوي من مختلف أطياف الشعب الإيراني في تحقيقها؟ و هل أن ما يحققه عالِمٌ أو فنان هو نصر لأحمدي نجاد و هزيمةٌ لمعارضيه؟
إن المنجزات التي حققها الإيرانيون هي ليست منجزاتِ الحكومة بل هي منجزات الشعب و إن الكثيرين من المثقفين الإيرانيين من فنانين و كتاب و علماء بارزين غير متفقين مع نهج احمدي نجاد، كما أن بوسعنا أن نجد في كل بلد علماءَ و فنانين و مبدعين يقدمون لوطنهم و شعبهم و للعالم أرقى أنواع الإنجازات رغم إنهم معارضون لنظام الحكم أو إنهم لا يتفقون مع سياسته وفق أحسن الصياغات. و القول أن إيران حققت منجزات على صُعُدٍ مختلفة لم نشكك فيه و لكنه لا يشكل دفاعا عن نظام الحكم كما إنه لا يغنينا عن تحليل و نقد النظام السياسي الإيراني، و إن وضع هذا وذاك في سلة واحدة أمرٌ لا ينطوي على موقف مسئول و يسعى إلى خلط الأوراق و هو ليس سوى تهرب من الخوض في جذر المشكلة التي باتت تتعلق الآن بآلية النظام السياسي.
يبقى أن نشير إلى أن التقدمَ العِلمي يجب أن يُربَط دائما بالهدف الذي كُرِّس من أجله، هل هو لصالح الإنسان أم انه لغير مصلحته؟ ثم يُصار إلى النظر إلى مسألة الأولويات: هل أن هذا المنجز العلمي أو ذاك يشكل أولية لبلد مثل إيران؟ هل يغني التقدم العلمي في هذا المجال أو ذاك عن حرية التعبير و حرية التظاهر و عن حرية تأسيس الأحزاب و الجمعيات؟ هل أن استنساخ العجول مثلا له أولوية تسبق أولوية توفير الأدوات الاحتياطية للطائرات؟

مع إيران؟ نعم! و لكن أيَّ إيرانٍ نقصد؟
كان هناك دائما العديدُ من المثقفين الإيرانيين من الذين يعارضون النظام في إيران و يعتبرون الديمقراطية و الحريات العامة ناقصة، الكثير منهم كان معارضا للشاه و سُجن في زمنه. بعض هؤلاء المعارضين لحكم الشاه واجَهَ أحكاما أكثر قسوة في زمن الجمهورية الإسلامية تصل حد الحكم بالموت بسبب كتاباته، فكاتب مثل فرج ساركوهي قد حكم عليه في زمن الشاه لمدة ثلاثة اشهر ثم مرة أخرى لمدة 15 عاما بسبب مقالاته النقدية و لكن حكم الجمهورية الإسلامية كان أكثر قسوة عليه، فانتُزع منه تعهدٌ تحت التعذيب بالتوقف عن الكتابة ثم ما لبث أن سُجِن و حكم عليه بالموت قبل أن تنقذه حملةُ تضامنٍ واسعة و يغادر إيران و يقيم في ألمانيا و هو يقود الآن منظمة quot; كتاب في المنفى quot;.
عدا ذلك فأن هناك مثقفين إيرانيين صعّدوا من مواقفهم و تحولوا إلى المعارضة بسبب الأحداث الأخيرة و بسبب إعادة انتخاب أحمدي نجد. نسوق هنا مثالا واحدا فقط هو المخرج السينمائي المشهور محسن مخملباف.
إنه من أشهر الوجوه الثقافية الإيرانية و قد قام بإخراج العشرات من الأفلام التي حصدت جوائز عالمية عديدة، كما إنه كان من المعارضين لحكم الشاه وقد أُودع السجن في إثناء حكمه، و كان من المتحمسين للثورة الإيرانية عام 1979 و حتى التطورات الأخيرة و لا نحتاج إلى أن نعلق كثيرا على موقفه من الأحداث الأخيرة إنما نقتطف جزءا من تصريحه للغارديان البريطانية نُشرَ بتاريخ التاسع عشر من حزيران من هذه السنة يتضمن نداء موجها إلى أنصار موسوي و الشعب الإيراني والعالم.
يقول محسن مخملباف: أتكلم بالنيابة عن موسوي و عن إيران.
الرجل الذي اختارته إيران أُكرِهَ على السكوت و هذا ما يريد قوله:
لقد حمّلت مسئولية أن أقول للعالم ماذا يجري في إيران. مكتب مير حسين موسوي الذي يريده الإيرانيون حقا كقائد لهم ناشدني بأن أقول ذلك. إنهم يريدون مني أن اُخبر العالم كيف أن المكتب الرئيسي لمير حسين موسوي قد حُطّم بواسطة ضباطٍ من الشرطة. و لكي أخبركم كيف أن قادةَ الحرسِ الثوري أمروا مير حسين موسوي بأن يبقى صامتا. و سُألت أن أقوم بحثِّ الناس على أن تخرج إلى الشوارع لأن موسوي لا يستطيع أن يفعل ذلك بنفسه.
الناس التي خرجت الى الشوارع لا تريد إعادة عدّ الأصوات التي جرت في الاسبوع الماضي. إنهم يريدون إلغاء نتائج الانتخابات. إنها لحظة انعطاف في تاريخنا. فمنذ ثورة 1979 كانت في إيران 80 % ديكتاتورية و 20 % ديمقراطية. ديكتاتوريتنا سببها وجود شخص واحد يمسك بزمام الأمور و هو المرشد الأعلى. انه يسيطر على الجيش و رجال الدين و النظام القضائي و وسائل الإعلام إضافة إلى تحكمه بالوارد النفطي.
لماذا لا يريد الإيرانيون أحمدي نجاد كقائدٍ لهم؟ لأنه ليس سوى صدى لصوت المرشد الأعلى. فتحت حكم احمدي نجاد تدهور الوضع الاقتصادي رغم الـدخل المحقق من النفط و البالغ 280 بليون دولار. الحريات الاجتماعية و الثقافية تم التضييق عليها كثيرا قياسا بما كانت عليه في زمن سلفه محمد خاتمي.....حين كان خاتمي رئيسا لإيران كان بوش رئيسا للولايات المتحدة. الآن انتخب الأمريكيون اوباما أما نحن فلدينا نسختنا من بوش. نحن بحاجة الى اوباما يستطيع أن يجد حلولا لمشاكل إيران.
انتهى كلام مخملباف و جاء الآن دورنا لنسأل: عن أيِّ إيرانٍ نتحدث و مع من نقف؟
هل مع إيران أحمدي نجاد و أجهزةِ الأمن و الشرطة أم مع إيرانِ المطالبين بالتغيير: موسوى و أنصاره، أكبر كنجي، محسن مخملباف، فرج ساركوهي، هادي خورساندي و قطاع كبير من العلماء و الفنانين و الأدباء و أوساط واسعة من الجماهير الإيرانية؟.
تصدّعُ إيران الداخلي أو تعرّضُها لحرب مدمرة هو ما لا يتمنّاه حريصٌ على استقرار المنطقة. و اذا ما كان كاتبٌ ما لا يمتلك غير أن يكتب، فإن النقد البناء هو دليلٌ على الحرص أكثر من تدبيج مقالاتِ المديح. على أن الاستقرارَ و تجنّبَ الحروب لا يرتبط بالأماني الطيبة إنما بمقدرة السلطة في إيران على حل أزمتِها السياسية و تفعيلِ آلية تداولٍ حقيقيٍ يقود إلى تغيير حقيقي سلمي و تجنب ازدواج السلطة و الحاجة إلى سياسة خارجية واقعية.
هذا ما يستطيع المرء أن يقوله، أما المنجزات العلمية فهي ملك الجميع.