حتى الآن لا يمكن لأمريكا التقليل من دور ما اصطلح على تسميته العلاقات العابرة للأطلسي (transatlantic relation) أو استبدال الحلفاء الأوربيين بحلفاء آخرين كما ذهب إليه الكاتب عزيز الحاج في مقالته (هل سيغير أوباما تحالفات أمريكا؟؟). فالعلاقة عبر الأطلسي لا تقوم على أساس سياسي فقط بل هي قائمة على أساس من التقارب أو التشابه في طبيعة الأنظمة السياسية الديمقراطية اللبرالية المؤسسة على قاعدة الاقتصاد الحر كما يرغب أن يسميه أنصاره.
أما عدم حضور أوباما الاحتفالات بسقوط الجدار التي تقام عادة عند بوابة براندنبورغ في برلين فلا يحتوي على ما يدل على تغيير في سياسته الخارجية، و ليس له سوى مغزى واحد مرتبط برفض سابق من قبل الحكومة الألمانية لطلبه إلقاء كلمة عند نفس البوابة في 24 من يوليو ـ تموز من العام الماضي حين كان مرشحا للرئاسة، فقد ابلغ في حينها انه بوسعه إن يلقي خطابه في مكان آخر فيما اعتبره محللون في حينها خضوعا لضغوطات من قبل الإدارة الأمريكية السابقة التي رأت أن هذا المكان ذا الدلالة سوف يعطي حملته الانتخابية دفعا كبيرا.
و لكي نحاول أن نفهم سياسة اوباما الحالية علينا أولا أن نشير إلى مدى ارتباطها بأسلوب الديمقراطيين خصوصا و انه ليس منفردا في رسم السياسة الخارجية فشريكته فيها هيلاري كلنتون زوجة رئيس ديمقراطي سابق، و هي و طاقم مستشاريه وثيقو الصلة بالأوساط السياسية و الاقتصادية الداعمة لسياسة الديمقراطيين الذي يرون أن صورة الولايات المتحدة قد اهتزت بعد قرار الرئيس بوش المنفرد في شن الحرب على العراق.
فسياسة الرئيس اوباما، اذا ما نحينا مرحلة الدعاية الانتخابية، تكاد تكون رد فعل على سياسة الرئيس بوش ولكن ليس في جوهرها إنما في أسلوبها و يبدو أن من السهل أن نرصد فيما يتعلق بموضوع النووي الإيراني أن إدارة اوباما قد تكيفت باتجاهين:
أولا: تجنب الظهور (و لو على المدى القصير) مرة أخرى بمظهر الشرطي العالمي و هي تعمل الآن على تنشيط الدور الأوربي في مواجهة مشكلة النووي الإيراني لكي لا يبدو الأمر بمثابة مشكلة ثنائية بين إيران و الولايات المتحدة، و ليس من المرجح أن تكون سياسة ساركوزي أو انكيليكا ميركل و معظم السياسيين الأوربيين بدون تنسيق و تقاسم أدوار مع الولايات المتحدة.
تقسيم الأدوار بما يعني بنشيط الدور الأوربي هذا يهدف إلى تفنيد الخطاب الإيراني المتشدد الموجه إلى الداخل و القائل بأن المشكلة مع الشيطان الأكبر و قوات الاستكبار و يساعد على إظهار مشكلة حيازة إيران للسلاح النووي على أنها مسألة تقلق المجتمع الدولي ككل و إن إيران مهددة بالعزلة.
ليس من الصعب ان نستشف أن الإدارة الأمريكية في المرحلة الأخيرة من إدارة بوش و في إدارة الرئيس الحالي اوباما قد قالت للقادة الأوربيين: اذا كنتم تعتقدون أن اللجوء الى الحرب أمر غير مقبول دعونا إذن نرى ماذا ستفعلون حين يهدد السلاح النووي الإيراني أراضيكم كما يهدد حلفاءكم؟
ثانيا: اتجاه قوي في الإدارة الأمريكية يسعى إلى استنفاذ كل الوسائل الدبلوماسية في حل الأزمة خصوصا وان الصبر و المطاولة سيجعل من عملية توجيه ضربة عسكرية (في حالة فشل الجهود السياسية) أكثر تقبلا لدى أوساط واسعة من السياسيين و من الجمهور الأوربي و الأمريكي الذي ظهر في الحرب الأخيرة على العراق كفاعل قوي في إعادة رسم السياسة الأمريكية التي أفرطت بالثقة بنفسها بعد انتهاء الحرب الباردة و قللت من شأن المعارضة الداخلية خصوصا في الولايات المتحدة التي شهدت دعما واسعا لإسقاط نظام صدام حسين قبل الحرب و لكن ليس بعدها.
لقد تضررت صورة الولايات المتحدة الأمريكية كثيرا في أعقاب الحرب التي شنتها على العراق و يسعى الرئيس اوباما و وزيرة خارجيته و طاقم مستشاريه لإعادة صورة الولايات المتحدة كنصيرة للديمقراطية و الحرية و ليس هناك اختلاف جوهري مع سياسة و إدارة بوش فالموقف من النووي الإيراني و كذلك الموقف من المشاكل في الشرق الأوسط هي نفسها و إن القرار بعدم تمكين إيران من امتلاك السلاح النووي لم يصبه الوهن أبدا و لكن الأساليب في تحقيقها اختلفت باختلاف الظروف.
لقد شهدت سياسات اوباما الخارجية رد الاعتبار لسياسة الرئيس السابق بوش و إعادة التأكيد على الكثير من ملامحها بل أن الكثيرين من مناصري اوباما يشككون الآن بمدى جدية الشعارات التي طرحها إثناء حملته الانتخابية. أما موقفه من وجود القوات الأمريكية في العراق و تقليص عددها فقد تم وضع قواعده الأساسية في فترة ولاية بوش الابن و خصوصا السياسة الجديدة التي وضع أسسها روبرت غيتس وزير الدفاع الجديد و التي بنيت على أساس المكاسب العسكرية التي تحققت على الأرض.
نحن الآن بانتظار القرار الذي سوف يتخذه اوباما بخصوص الموافقة أو الرفض لمقترح زيادة القوات الأمريكية في افغانستان و الذي في النية أن يصدر في أعقاب أعياد الشكر، و يشهد الديمقراطيون انقساما بخصوص هذه المسألة فقد وصفت رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي الرئيس الافغاني كرزاي بأنه شريك لا يتمتع بالثقة و إن الكونغرس لا يمكنه أن يمول توسيع المهمة العسكرية الامريكية في افغانستان بدون حليف جدير، اما على الصعيد الجمهوري فقد كان تردد أوباما في اتخاذ القرار موضع انتقاد و خصوصا من قبل المرشح السابق للرئاسة الجمهوري السناتور ماكين و رأى جمهوريون أن التأخير يصب في مصلحة تعزيز المواقف العسكرية للطالبان، و لكن ليس من المرجح أن يرفض الرئيس اوباما طلب القادة الميدانيين بزيادة القوات كما لا يمكن ان يتجاهل الرأي القوي السائد الذي طرحه العديد من المتخصصين في منتدى الأمن الذي عقد في كندا ـ هاليفاكس الذي شددوا أن quot; الانتصارquot; هو طريق الخروج الوحيد من افغانستان.
إن المزيد من الخضوع لمتطلبات الواقع السياسي و الاستجابة لمتطلبات الدور الامريكي في السياسة الخارجية يقلص باطراد الفجوة بين سياسة اوباما و سياسة الجمهوريين و يتعزز الاتجاه الساعي إلى جعل السياسة الخارجية الحالية بمثابة إكمال للمهمات التي بدأها الرئيس السابق بوش، الأمر الذي حدا بنائب الرئيس السابق تشيني إلى الإشارة الى ان سياسة اوباما الآن تثبت أن بوش كان مصيبا.
أما على المدى البعيد فليس بوسع احد ان يتنبأ بمستقبل سياسة أمريكا تجاه أوربا. لا شك أن أوربا تشيخ و تواجه تحديات متنوعة و هي لا تستطيع في الوقت الحاضر الا ان تلعب دور مكمل للسياسة الامريكية المدعومة بالقوة العسكرية و الاقتصادية، و لكننا نرى انه على المدى المنظور لن يكون بوسع اوربا ان تواجه التحديات بدون تحالف وثيق مع الولايات المتحدة و بنفس القدر تبدو الولايات المتحدة حتى إشعار آخر بحاجة ماسة الى الدور الأوربي على اعتبار أن اوربا هي الحليف الوحيد الموثوق.
على أن من الضروري أن نأخذ بنظر الاعتبار أن عالمنا قد تغيير منذ سقوط الجدار و سوف تتجاوز الصين وربما الهند ألمانيا و ربما بعدها اليابان في تسلسل الاقتصاديات العالمية اذا ما استمرت معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة في كلا البلدين، حيث سترتفع معها القوة العسكرية لهذه الدول، و هذا الأمر لا يمكن تجاهله.
غير أن تكريس القوة للحفاظ على القوة أمرٌ بدأت ملامحه بالظهور الجلي لمواجهة التحديات القادمة التي تهدد الدور الأوربي و الأمريكي و ليس الحرب على العراق إلا محاولة للامساك بمفاتيح القوة من وجهة نظر جيوسياسية معاصرة، عند ذاك ستجد الصين إن أوراقها الاقتصادية و حدها غير كافية.
و على صعيد العلاقة مع روسيا فإن من الواضح أن سياسة الرئيس بوش كانت استفزازية، وقد حفزت الاوساط المتشددة في روسيا على تصعيد العداء للولايات المتحدة و تعزيز التشدد القومي الروسي و كان من المتوقع ان ترد روسيا على مثل هذه التحديات التي تواجهها في الجنوب و في الشرق من حدودها مما كانت تعتبره مجالها الحيوي.
و مع ذلك ينبغي عدم التعويل على الموقف الروسي المساند في الظاهر لحكومة احمدي نجاد، و على المرء أن يتعظ من تجربة الموقف الروسي من نظام الرئيس العراقي السابق الذي كان في ظاهرة مساندا للنظام و لكن مارس سياسيتين متوازيتين، الاستفادة منه اقتصاديا قدر المستطاع و من ثم عدم القيام بأي دور لعرقلة إسقاطه إن لم يكن قدم تسهيلات لإسقاطه. و لا يمكن تخيل روسيا و قد ضحت بشريك سياسي و اقتصادي مثل الولايات المتحدة و أوربا من اجل مصالحها المحدودة مع إيران
http://www.elaph.com/Web/Politics/2009/11/505450.htm