سواءٌ في مجال السياسة أوالفكر أوالفن فقد كانت فرنسا العصر الحديث أكثر بلد شهد تغييرات دراماتيكية. كان الشعب الفرنسي أكثر شعب يلجأ للحسم حين تأزف الساعة، ظهرت هنا التحولات الاجتماعية والسياسية بنقاء كرستالي. وعلى خلاف الصبر الإنكليزي المعهود والتغيير الهادئ والسلس كان تعاقب الطبقات الحاكمة والتغييرات السياسية والاجتماعية في فرنسا يتم عن طريق الثورات والاستبدال الحاسم، الخاطف والعنيف. ففي أقل من قرن شهدت فرنسا أول ثورة برجوازية وأول ثورة بروليتارية وبينهما وقعت ثورتان في عامي 1930 و1848 مما دفع ماركس إلى أن يكتب أن الفرنسيين هم أكثر شعب يسارع إلى إقامة المتاريس حين تأتي ساعة الحسم.

لوحة ميليه

وإذا ما كانت السياسة هي التي تتوج الفعل الثوري والسياسيون هم الذين يظهرون في مقدمة المسرح ويقطفون ثمار التغيير، فإن الأدباء والفنانين الفرنسيين كانوا منخرطين في العملية الثورية بنشاط وكانوا يهيئون للتغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي دون أن يحفلوا، كما يفعل السياسيون، بجني الثمار الملموسة وركوب موجة التغيير. كانوا منهمكين في حث مسار التطور نحوالأمام دون أن يضعوا ذلك على جدول الأعمال، فهم مهتمون قبل كل شيء بخلق إدراك جديد لعالمنا وبتطوير أدوات التعبير، تلك التي فعلت ديناميكية المجتمع الفرنسي.
لم يكن جميع الفنانين والأدباء منخرطين في الفعل الثوري بمعناه المعتاد على غرار ما فعل رامبوحين لجأ الى المتاريس وقاتل مدركا أن العيش بالطريقة القديمة لم يعد ممكنا، الا ان فعلهم الثوري كان معبرا عنه بصراع المدارس الفنية الثورية التحديثية ضد المدارس المتزمتة التي مثلتها طويلا الأكاديمية الفرنسية. لقد كان الصراع في مجال الثقافة والفن أحد أهم أوجه الصراع الفرنسي الاجتماعي والسياسي.
وإذا ما كانت العديد من الثورات العنيفة في فرنسا وفي غيرها من بلدان العالم قد فشلت، بمعنى إنها لم تنتصر عسكريا، إلا أن كل الثورات قد وضعت مهمات جديدة امام المجتمع والسلطة لا يمكن تجاهلها طويلا. وما لم يتم تحقيقه بالعنف الثوري تحقق بعضه أوكله في سياق التطور الهادئ.

لوحات تحريضية
في عام 1857 رسم جين فرانسوا ميليه لوحته الشهيرة(gleaners) quot; جامعات بقايا الحصادquot; التي مثلت نسوةً فقيراتٍ يجمعن ما تبقى من حبوب تخلفت بعد الحصاد. قال ناقد معاصر أن بوسعه أن يرى أن الثورة القادمة تلوح في أفق اللوحة. قبلها كان ديلاكروا قد رسم quot; الحرية تقود الشعب quot; بوحي من ثورة 1930، هذه اللوحة اقتنتها الحكومة وعرضتها بادئ ذي بدء في متاحفها إلا أن المحافظين حاربوها ومنعوا عرضها على اعتبار إنها لوحة تحريضية حتى قيام ثورة 1848 حيث عرضت على الجمهور مرة أخرى وبقيت تزار في متاحف باريس حتى يومنا هذا. وفي كلا الحالتين وفي مختلف مراحل الصراع السياسي في فرنسا لم يكن الفنانون الطليعيون الثوريون في مواجهة الحكومات المحافظة فحسب، إنما كانوا في مواجهة الفنانين المحافظين، فقد وقف رسامون محافظون سياسيا وأسلوبيا ضد أي تغيير سواء في طرق الرسم أوفي أساليب التدريس في المعاهد والأكاديميات الفنية الفرنسية.
كان ميليه ينتمي إلى مدرسة الباربيزون الفرنسية التي مهدت الطريق للانطباعية وكان ضمن أشهر أسماءها غوستاف كوربيه وكورو، ولكن ميليه على خلاف كورووأغلب فناني هذه المدرسة ركز على الهم الانساني وصور حياة الفلاحين بكل ما فيها من مآس وفقر.
تناول كوربية الحياة العادية للناس أيضا وكان مثيرا للجدل في واقعيته فعلى خلاف المدرستين السائدتين في فرنسا الكلاسيكية الجديدة والرومانسية رسم كوربيه حياة الناس اليومية ومواضيع لا تكترث بما كان يعتبر ساميا أوما يعتبر ميثولوجيا يروي اسطورة ما وكان يجاهر باشتراكيته وماديته وأصبح ضمن اللجان الثورية للكومونة التي انتصرت في باريس وحكمت لمدة اربعين يوما، وحين عادت الرجعية الى السلطة بقيادة تيير مدعومة من خصوم فرنسا البروسيين اودع كوربيه السجن ورسم من سجنه العديد من اللوحات.
ظهور الانطباعية
يتناول مؤرخوالفن الانطباعية على اعتبار انها خالية من الزمن ومن الموضوع السردي تصور اللحظة العابرة ولم يتأملوا بعدها الاجتماعي والسياسي ـ راجع مثلا ساره نيوماير ـ وقد تم التركيز على مكتشفات الانطباعيين التكنيكية على وجه الحصر تقريبا وخصوصا المنجزات اللونية لما عُرف بالمزج البصري ( optical mixture) الذي توصلت إليه الانطباعية في ذروة تطورها، على أن الانطباعية كانت في الواقع ذروة تطور المساعي لتأسيس فن البرجوازية الناشئة البديل لفن الإقطاع والنبلاء المتزمت ذي القواعد البالية.
حققت الثورة البرجوازية الفرنسية انتصارها السياسي على نظام النبلاء الإقطاعي في العام 1789 ولكنها لم تكن قد أسست بعد كامل البنية الفوقية للثقافة البديلة.
وقد أشار الكثير من الكتاب ونقاد الفن إلى أن ظهور انبوبة الزيت ـ التي تُمَكّن الرسام من أن يحمل ألوانه معه ـ قد مهد للرسم في الهواء الطلق منذ ظهور مدرسة الباربيزون. لاشك ان الميل للرسم في العراء ومغادرة الدواخل المعتمة التي يسيطر عليها اللون البني الغامق والمرسومة بتدرجات اللون الواحد ( monochrome) التي كانت طاغية في الرسم، هوالذي املى على فناني الجيل الجديد مغادرة العتمة واستقبال الضوء واستنشاق الهواء الطلق وهذا ما دفع إلى اكتشاف انبوبة الزيت وليس العكس.

ضوء الشمس، التفاؤل الثوري
ولم يكن الولع بالضوء مجرد تغيير شكلاني خال من المحتوى بل كان التعبير الصوري عن التفاؤل والمرونة والجرأة الثورية في التعامل مع القديم.
فالفن الجديد ممثلا إلى حد ما بمدرسة الباربيزون ثم، فيما بعد، بالانطباعية الأكثر تجذرا شكل البديل المضاد للفن القديم، فقد كانت لوحات الانطباعيين تعكس تفاؤل الطبقة الجديد ورغبتها بمغادرة القلاع والقصور الفخمة ورسم الحياة اليومية لعامة الناس، كما كان هذا الفن رمزا للحرية والتخلي عن القواعد الجامدة، وقد لخص مانيه جوهر الاختلاف ومقدار الحرية التي توفر عليها الرسم الجديد بقوله: quot;نحن نرسم كما تغرد الطيور، الرسوم لا تصنعها الشرائعquot;.
وحين سأل احد ممثلي المدرسة القديمة انطباعيا: ايها الفتي هل ترسم لأجل المتعة؟
أجابه بكل استرخاء: ما فكرت بأن أرسم لغير هذا الهدف.
ومن بين أعمال الانطباعيين نجد أن لوحات رينوار أكثر من غيرها تعكس حياة طبقة جديدة واثقة من نفسها تتمتع بالحياة بدون قيود ومحظورات. جعل رينوار وزملاؤه النزهات التي يقوم بها شبان وشابات في الطبيعة وعلى ضفاف الأنهار موضوعا في الرسم يختلط فيه الأفراد بالطبيعة بدون حدود صارمة، وبدد ضوء الشمس الدكنة التي كانت عليها دواخل الرسم القديم أوموضوعاته المستمدة من الميثولوجيا وأظهر ضوء الشمس الألق الطافح والبشرة الوردية لشبان أصحاء.
حُسِبَ أدغار ديغا تعسفيا على الإنطباعيين، في الوقت الذي كانت أعماله تؤسس لشخصيته الفنية المستقلة المتملصة من أية أمكانية للتبويب والتصنيف وقد ثوّر تكوين اللوحة بشكل صادم، وإذا ما كانت ألوانه وتكنيكه اقل ثورية من الانطباعين، فإن ديغا بنى لوحته بأسلوب مبتكر تماما ووزع الكتل الرئيسية تاركا فضاء غيرَ مستساغ ولا مفهوم وفق قواعد الفن السائد حتى تلك اللحظة، وبالمزاوجة بين بناء اللوحة لدى ديغا وسيزان من جهة وانطلاق الألوان على سجيتها وبكامل طاقتها التعبيرية لدى الانطباعيين الآخرين من جهة أخرى، مُهّدت الأرضية لجيل جديد من الرسامين.


التمهيد للفن اللاحق

لوحة لرينوار
سمي الجيل الجديد من الرسامين بـ ( ما بعد الانطباعيين)، هذه التسمية الخالية من الدلالة الفنية والتي تعكس أزمة العلاقة بين اللغة واللغة الصورية، كانت الإطار الذي ضم عبقريات الفن التشكيلي الفرنسي ـ بعضهم ليس فرنسيا وعاش في فرنسا ـ والتي شكلت حلقة الوصل بين الانطباعية وفن القرن العشرين.
كان البعد الفكري والتنظيري لدى هذا الجيل أكثر وضوحا وتدوينا، فقد أسس جورج سيرا التنقيطية القائمة على قواعد هي الأشد صرامة في الفن منذ ظهور الانطباعية وكانت اللوحة لديه تقوم على قواعد تقارب الرياضيات وقد استغرق العمل لانجاز لوحة واحدة مثل quot; يوم الاحد في غراند جات quot; عدة سنوات، واذا ما كان سيرا يضع نظريات في مجال التكنيك الفني، فقد تطلع فان كوخ الى فن يعبر عن وظيفة اجتماعية وثورية، فهونفسه قد اهتدى الى الرسم وكرس له السنوات الأخيرة من حياته حتى انتحاره في سن السابعة والثلاثين بعد أن جرب مهنا كثيرا حاول من خلالها أن يهتدي الى السكينة الروحية ويمارس الصدق الذي استعصى عليه حتى في عمله الكنسي.
مراجعة الرسائل التي بعثها فان كوخ لأخيه ثيووتحليله العميق للأعمال الفنية التي قام برسمها تعطينا فكرة عن البعد الفكري للوحاته، ففي لوحة آكلي البطاطس يكتب فان كوخ لأخيه ثيوإنه اراد ان يقول أن هذه العائلة الفلاحية تأكل البطاطس بنفس اليد التي قامت بزراعتها، وقد حلم فان كوخ، وتحت تأثير ذكرى الكومونة، بتأسيس كومونه فنية.
وسخر تولوز دي لوتريك المتحدر من عائلة نبلاء من السلوك الفج والتسطيح الذي كانت عليه اوساط من المختلفين الى قاعات العرض من مدعي نصرة الفن من الذين استنكروا فنه الذي اعتبر لدى البعض مجانبا لقواعد اللياقة، وحين صرخت احدى السيدات مستنكرة قيام لوتريك برسم امرأة تنضوثيابها بحضور رجل قال: quot; صحيح إن الشر موجود ليس في الاشياء ولكن في نفوس الناس quot;.
وبحلول القرن العشرين وفي النصف الأول منه على وجه الخصوص كان الرسامون والمثقفون الفرنسيون منخرطين في تغيير عالمنا، رؤى وافكار جديدة وبحث يخطئ ويصيب عن الجهة السياسية التي تستطيع استيعاب تطلاعتهم، ودخول متكرر في اشكاليات مع الساسة عكست الفرق الكبير بين الرؤية السياسية والابداعية لعالمنا.

[email protected]