تغيير ما هو رثٌ و بالٍ في الرؤية البشرية للجمال و معاييرِه يحمل شحنةً ثورية دائما.
تعاقبت أشكالُ التعبير عن الجمال و معاييرُها الضرورية بإصرار و ديمومة. لم يكن ذلك مرتبطا بالمسعى من اجل عالم أكثر جمالا فحسب، بل و عالمٍ أكثر عدلا بالضرورة. الجمال يقود إلى العدالة، إنه التعبير الأكثرُ عمومية و شمولا و تركيزا، و ما التحقق المصاحب إلا أوجه أو مَلاحق و توابع و لوازم.
تغييرُ وسائلِ و طرق التعبير عن جمالياتِ عصرٍ ما تكشف محدوديةَ رؤيتنا القديمة على كافة المستويات و تستدعي نطاقا أوسع من التغيير من اجل أن تحققَ ذاتَها، إنها تستدعي تغييرا اجتماعيا، إنها لا تكتفي بتغيير رؤيتنا فتحذف من مفضلاتنا الأجساد المكتنزة المرتمية على قماشة لوحة الرسم أو الموصوفة على ورق الرواية مثلا، بل تحذف كامل النسق الفكري و الاجتماعي الملازم لهذه الرؤية و تخلخل مشروطياتها. فهي، إذ تخلق عالما كاملا من البدائل الجمالية، فإنها في الوقت نفسه تخلق منظومة فكرية ملازمة تتجاوز نقطة الانطلاق، أي نطاق الجمال، الى العدالة و الانسجام.
عدم الاقتناع بالواقع ينتج ديناميكية التغيير، فالمُنجَزُ عادي في أحسن أحواله، عاديّتُه مستمدة من تحققه. القادمُ من المهمات جذابٌ و جديرٌ بالاهتمام، جاذبيتُه مستمدةٌ من إقامته في الآفاق و الأمل المعلق على تحققه و لذة المسعى المكرس من اجل هذا التحقق. المهماتُ الأكثر جمالا هي تلك التي لم تتحقق بعد، و لا يصار إلى العمل على تحقيق الإنجاز المنفرد المعزول، بل يتصاحب ذلك مع ضبط إيقاع العلاقة بين عناصره.
حين يضع الفلاسفة تصوراتهم لعالم جديد فإنهم يعمدون إلى مَوْسَقَة العلاقات البشرية كما و العلاقة مع العالم المادي. فكتابات علماء الاجتماع و الفلاسفة ذات إيقاع متناغم مع ذاتها أولا. الأدب يعمل من جهته على تحقيق الهدف ذاته، الفن أيضا.
و بالرغم من أن الماديين يرون أن هذه المَوسَقَة مستمدة من الواقع المادي إلا إن العلمَ و الأدبَ و الفلسفة تُخضِع مُحتواها إلى علاقاته الذاتية أي علاقته مع نفسه، و تستجيب لمتطلباته الداخلية فتضُفي تنظيما على فوضى التفكير المتزامن.
الأنساق الموجودة في العالم المادي رغم موضوعيتها، أي رغم وجودها خارج العقل و خارج الوجود البشري برمته، لا تتناقض مع كون مفهوم التناغم و العلاقات الجمالية لهذه الأشياء هو مفهوم ذاتي محض، إنه مُضفى عليها من خارجها، إنه غير موجود بذاته، فلا معنى للجمال بدون العقل المدرِك له. الجمال هو مفهومٌ عقلي لعلاقة الأشياء ببعضها. بزوال العقل المدرك للتناغم يزول التناغم و الانسجام بين الأشياء التي لا توجد بدون أن تكون مُدركة.
فوجود حجر متناسق الألوان قبل الخلق البشري هو أمرٌ غير ممكن و تعبير غير صائب، فإذا ما كانت الألوان تمثل جودا موضوعيا متحققا في الأشياء بوجود الإنسان أو عدم و جوده، لن يكونَ التناسقُ سوى إدراكٍ بشري محض مُضفى على الحجر و ألوانه من خارجه، من العقل المدرك للانسجام، بل الخالق له.
الوجودُ الماديُّ للأنساقِ الجمالية ( خارج العقل المُدرك لها ) يجعل من هذه الأشياء موجودةً بحيادية و وظيفية، و لكن مفهوم الجمال الذي تحتويه الأشياء في علاقتها ببعضها: اللون، التكوين.. الخ لا يتحقق إلا بوجود الإدراك الخارجي.
هذا الأمر ليس له علاقة بمثالية بمثالية هيغل أو بريكلي.
عدا أن العلمَ نفسَه ذو إيقاعٍ ساحر فإنه معنيٌ بالكشف عن إيقاع عالمنا المادي، عن النسق المُفسَّر جماليا: حركة الكواكب و النسق السائد، حركة عناصر الذرة و الجسيمات متناهية الصغر، جدول مندلييف للعناصر، أنساق أجهزة الجسم البشري و الحيواني و تنسيقها متناهي الدقة، النباتات و غائيتها تناغمها مع المحيط مع الضوء و الهواء بواطن البحر و المحيطات.....
كلٌ بوسائله الخاصة يكوّن نسيج عالمنا، إنه النسيج المتشابك المُنتَج في مجمل الحياة المادية و الفكرية يقدم مقترحا لحركة نحو الأمام.
سعى الديالكتيك الهيغلي إلى اكتشاف الميل العام للانسجام بين عناصر الطبيعة و الفكر و حدد عناصر التناقض ضمن الظاهرة الواحدة و تصارعها من اجل عودة الانسجام إليها، و إذا ما كان هناك ميلٌ طاغٍ لاعتبار التناقض هو حافز الحركة، فإن من الصحيح اعتبار الانسجام، ربما السعي للانسجام، ربما الانسجام القلق و العابر، هو المحرك، كل ذلك اعتمادا على القسم المجتزئ الذي نراه جديرا بالاعتبار أكثر من غيره، و ذلك السياق الذي ينسجم مع تناولٍ بعينه.
لقد تم إخضاع الفلسفة لاعتبارات سياسية، و لم تترك وحيدة أبدا بنقائها و كبرياءها المعرفي كي تعبر عن نفسها. كان هناك دائما خطٌ متقدم للتعبير عن الفلسفة، هو، دائما أيضا، خط التأويل و إعادة التفسير الذي قرّبَ نصوصَها من النصوص المقدسة. و لقد كان التفسير السياسي هو التفسير الأكثر تبسيطا و برغماتية للفلسفة و بالتالي الأكثر ابتذالا و سطحية.
لن يبطل إقرارُنا بمثالية الجدلية الهيغلية قيمةَ موقفها من الحركة و شكلها، لأنها تعاملت مع الوجود الموضوعي كما المادية، إنما مثاليتُها تتعلق بنقطة الانطلاق التي، اذا تجاوزناها و أخذنا موقفها من الحركة و الانسجام، نجد إنها في هذه النقطة لا تختلف عن المذهب المادي في شيء.
و طالما كان الأمر يتعلق بدور الميل للانسجام و التوافق بين العناصر و الظواهر فإن دور فلسفة هيغل سوف لن يكون قليلَ الشأن بل ذا أهمية قصوى، فالمعرفة البشرية، في اقترابها غير القابل للاستنفاذ من الحقيقة، لا تحقق منجزها بخطوة واحدة و تكون إنجازات هيغل الفلسفية واحدة من اكبر الخطوات المعرفية في التاريخ.
يأخذ العقل الثوروي الحركة في الاعتبار، و لا ينظر إلى الانسجام، مع أن هذا الأخير هو الباعث على الحركة، لأنه يريد أن يركب قطار التغيير، و لكن موقفه يكون مختلفا حين يقطف ثمار الحركة الذي كيّفَهُ و أسقطه على مجال بعينه. فالسياسي الثوروي يسعى إلى جعل الحركة تقوده الى الهدف الذي وضعه بحشد القوى لفرضه تعسفيا، عندها تكون الحركة قد كفّت عن أن تكون حركة، لقد أركنها إلى السكون بعد أن أدت أغراضها أو طبقها على مجالات فرعية.
فأكثر علماء الاجتماع ثورية قد نظر إلى تعاقب الأنظمة الاجتماعية من خلال ميلها الى تحقيق نوع من الانسجام، فقد أشار ماركس في نقده للمجتمع الرأسمالي الى التناقض الرئيسي بين الطبيعة الاجتماعية للعمل و الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، و رأى أن الميل العام هو المزيد من الانسجام بينهما، و رأى أن مستوى محددا من قوى الإنتاج يتوافق مع شكل بعينه من علاقات الإنتاج و ليس أي شكل، و إن استدعاء هذا الشكل بعينه يتطلب حركة. لم يكن يسعى الى تأليه التناقض و التنافر بل بالعكس سعى إلى كونه دالا على ضرورة العودة إلى الانسجام.
و لا يمكن الجزم اليوم بأن هذا التناقض هو الذي يطرح نهاية المجتمع الرأسمالي و استبداله نوعيا و أن عودة الانسجام تملي شكلا اجتماعيا جديدا لان هذا هو عينه المطب السياسي للفلسفة، و لكن المؤكد أن الفكرة، كفكرة مجردة و بغض النظر عن إمكانية تحقيقها قد سعت إلى نوع من الانسجام و العلاقة الأكثر جمالا في التناسق و إعادة الإيقاع لضبط إشكالية الصراع بين طرفي التناقض.