قبل أن نتباهى بديمقراطيتنا علينا ان نتساءل: ماذا لو أن القوة الحاسمة غابت وكيف ستتصرف القوى السياسية العراقية بغيابها؟
ليس من الصعب معرفة اننا نقصد بالقوة هنا، القوة الدولية والأمريكية على وجه التحديد.
عندها فقط سنعرف من هي القوى السياسية العراقية التي تؤمن بالديمقراطية وتختارها اختيارا حرا كآلية سياسية وطريقة حوار. وعندها سنعرف ان قوة سياسية مثل هذه غير موجودة. فلكي نكون ديمقراطيين حقا علينا أن نختار ديمقراطيتنا بإرادتنا الحرة وعلينا أن تؤمن بأن لا طريق آخر من أجل وطن آمن.
دون طرح هذا السؤال لن يكون بوسعنا أن نقول لأولئك الذي يرون عنبنا حصرماً: لا أنه قاطع الحلاوة وأنهم إنما يتقولون على عنبنا لأنهم لا يستطيعون الوصول إليه.
كتب كاتبٌ مشيدا بالديمقراطية العراقية، ثم أضاف إنها تأسست بعد quot; الغزو quot; حسب تعبيره!
هذا تعبير بالغ النقاء على الكيفية التي يتم بها استخلاص نتائج باهرة من مقدمات quot;فاسدةquot;. فكيف لما يراه غزوا أن يكون سببا في تأسيس ديمقراطية؟ بل لعله يرى أن ديمقراطيتنا قد تصادفت زمنيا مع quot; غزو quot; وقع قبلها ووقعت بعده ليس من مسبباتها وليست من نتائجه.
لقد تم تدويل القضية العراقية وفرض المجتمع الدولى على قوى سياسية متناحرة تميل إلى مصادرة بعضها البعض أن تتعامل مع بعضها بطريقة متحضرة وهي لا تملك خيارا آخر. و(فرَضَ) هنا تعبيرٌ لا يمكن الاستغناء عنه أو استبداله لكي نعرف طبيعة ما نحن عليه. وعلينا أن لا نغّيب هذه الحقيقة، وعلينا أن نعرف ماذا سيكون الأمر لو القوة الدولية، الأمريكية على وجه التحديد غابت عن الساحة العراقية ثم نراجع كامل تاريخنا الدموي الذي ساهمت في صنعه كل القوى السياسية العراقية وقامت بتصفية الطرف الآخر فكريا إن لم تستطع جسديا بفعل غياب السلطة والقوة.
فلتصفية الخصم ينبغي أن تكون هناك ادوات التصفية التي ليس أقلها السلطة، وبغيابها لا يمكن لمن لم يصّفِ خصمة ان يرفع عقيرته بالديمقراطية، كما أن ليس من الصحيح أن حزبا او فئة سياسية لا تكون شمولية قمعية طالما هي خارج السلطة، يكفي أن ننظر إلى تعاملها مع ناقديها من بين اعضائها وأنصارها، فلا يمكن لمن لم يؤسس لديمقراطيته الداخلية ان يعمل على تأسيس ديمقرطية في المجتمع ولا يمكن لمن لا يعمل على تعددية المنابر داخليا أن يقبل الرأي الاخر.
أم القوى الأسلامية فإنها لا تحتاج إلى أية ديمقرطية لأنها تستمد الحقيقة من الله، الحقيقة التي جُعلت بعيدة المنال على الشخص البسيط الذي رأت أنه ليس بوسعه الوصول إليها بتواصله المباشر مع خالقه والتي حيل بينه وبينها بفراسخ وفيافي من طبقات معقدة من المعرفة المدّعاة نسبت لدين سمح الأصول ينص على أن النية وحدها كافية لكي يحسب الخالق للعبد محاسن صنيعه.
لقد كفرت القوى الاسلامية بكافة أشكالها خصومها وأمرت اتباعها بملاحقتهم ومهدت لانقلابات دموية وسكتت عن مهرجان الدم المباح بعد اول جمهوية ميمونه. هذه الحقيقية التي ينكرها اليوم المتماهون مع الفكر الطائفي من الذين احسنوا تبديل مواقعهم، هي حقيقة مسكوتٌ عنها رغم ان فتاوى القتل لا تزال قائمة وقابلة للتنشيط في أية لحظة.
و بعد أن فرضت القوى الدولية المتحالفة في حرب الكويت منطقة حظر الطيران دخلت القوى الكردية الاساسية في صراع دموي قتل فيه الكردي أخاه الكردي حتى تظاهر الشارع الكردي داعيا إالى عودة صدام حسين الى المنطقة quot; المحررة quot;.
و اذا ما كانت القاعدة واضحة بما يكفي وبالتالي تجعل من فكرها سهل الرصد فإن كل قوى الأسلام السياسي تسعى لنفس الهدف تحت غطاء من التموية. بل أنها تزيد من تمويهها لنفسها باشتراكها في العملية السياسية ودعوتها للمشاركة في الانتخابات لكنها لا تتورع عن تصفية خصومها. فقد صرح قائد في حزب اسلامي حاكم مشارك في العملية السياسية من أن حزبه يؤمن بالديقراطية كآلية وليس كفكر فيما يعني اننا سنصل الى السلطة بواسطة نفس هذه الديمقراطية التي سنلغيها بُعيد انتخابنا وليس بعده.
هذا ما يغمض بعض منا عنه عيونه. فالإرهاب متعدد الألوان وعابر للطوائف.
إن هذا التصريح ليس معزلا لشخص شط عن الطرق، فالمؤمنون بالديمقرطية يتجاهلون اهم عناصرها، بل وجوهرها وهو: ان تكون ديمقرطيا يعني أن تقبل بالخسارة قبل كل شيء، فليس بوسع الفائرين أن يقولوا اننا نؤمن بالديمقراطية، وعلى ذلك يترتب علينا أن نسأل سؤالا افتراضيا ولكنه حيوى بما يتجاوز الواقع: ماذا سيحصل حين تكون القوة الضاربة (جيش وشرطة وقوات أمن) غير محكومة بوجود قوى التحالف الدولي ولمن سيكون ولاؤها وهل ستعقد لواء البلد لمن تمخضت عنه العملية السياسية وصناديق الاقتراع؟ عندها فقط بوسعنا أن نتباهى بدمقرايطتنا ونجعلها أمنية يتمناها كاتب في مقال مجاور.
في بلد بات يمتلك كل عناصر التفكك والفرقة ادركت اوسع اوساط الشعب من بساط النساء ومن مثقفيهم حيوية الديمقراطية من اجل التأسيس لآلية جديدة في العلاقة مع الآخر غير آلية القمع والتسلط. هذا الامر كان قد رسخه المجتمع المدني العراقي الذي لم يعد له وجود تقريبا بعد أن أمعن في تخريبه السياسيون سلطة ومعارضة، وهذه الاوساط من عامة الشعب هي الداعم الحقيقي للديمقراطية الوليدة اما السياسيون العراقيون فإنهم: اما مكره على تقبلها حين يكون خاسرا أو قابل بها حين يكون فائزا فتوفر له فرصة للنهب اسوة بفائزين سبقوه فوزا ونهبا.
قال مفكر سياسي كبير في مطلع القرن العشرين عن الديمقراطية اللبرالية التي كانت في طور التكوين بأن الانتخابات تُجرى هنا ليتم تعيين من الذي سيقوم بنهب الشعب في المرحلة القادمة.
و بالرغم من أن الديمقراطية اللبرالية قد تجاوزت هذا الواقع الذي أشار إليه هذا المفكر وحققت الكثير من المكاسب قياسا بما كانت عليه في بداية القرن العشرين الا ان ديمقراطيتنا لم تخرج عن هذا الإطار حتى الان، انها لم تكن سوى دورة أخرى تتيح الفرصة لفاسدين وسارقين آخرين أن يصعدوا الى الصدارة فيخلفوا فاسدين وسارقين خاسرين، إنهم الآن مدعومون بشرعية دستورية تقوّي من مواقعهم من اجل المزيد والمزيد من الفساد وتعطيهم السلاح لقمع كل صوت محتج.
و هكذا فإن صندوق الاقتراع لا قيمة له اذا لم يحمل للناخب تحسنا ملموسا في غذاءه وأمنه واذا لم يكن صندوق الاقتراع آليه لاقصاء السارق والفاسد والدعي.
إن بعضنا يسعى لكي يجد في نظام يرضى عنه كل ما هو جيد ولكي يجد في نظام يكرهه كل ما هو سيء. إن حياتنا أكثر تعقيدا من ذلك ولا يمكن اختزالها بكلمتين، ففي نظام لا نرضى عنه قد نجد ما هو جيد وفي نظام نصفق له بحماس قد نجد ما هو سيء.
إن عزاءنا الوحيد رغم ذلك أن العراق هو بلد تدرك فيه عامة الناس مصالح البلد أفضل من الساسة بكثير.
www.munir-alubaidi.de