في شهر مايو من سنة إثنان وخمسون رحل (الملك فاروق) عن السلطة في بلده (مصر) بهدوء وبطريقة سلمية حضارية لم يراق فيها دم مواطن، ولم تنصب فيها المشانق لمعارض، ولم تحترق فيها خيرات البلد.
رحل وترك عرشه وقصوره وممتلكاته بكامل نوادرها ونفائس محتوياتها، رحل دون أن يلملم فتات نفسه، وأشياء أهله الخاصة، وترك البلد طواعية لمن ظن الشعب العربي بهم ألف خير.
ودقت ساعة العمل العربي بطريق الأحرار، وأعلن زحف الوطن العربي بطريقه الجبار!. وحل الضباط الأحرار بمواقع السلطة. وهم جماعة من العسكر الشباب، الذين وبكل إقتدار تمكنوا من إيقاد شمعه الأمل المنعدمة في نفوس الشعوب العربية، وجددوا الأمل بزوال الإحتلال، وزوال التبعية، وسيادة القانون، وبحقوق الإنسان، وبحكم الشعب لنفسه بنفسه. وتعاطفت معهم الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط، وغنى معهم كل فرد عربي أغاني الحرية والعروبة والإشتراكية والوحدة، التي لا يغلبها غلاب.
وما لبثت أن زالت السكرة، وأتت الفكرة، فتنازع على السلطة من تنازع، وأقصي من الواجهة من أقصي، وتمسك بالكرسي من تمسك وتشبث، وخان من خان وغدر من غدر وتفرعن من لم لم يجد من يمنعه.
وقام الغوغاء بسلب محتويات القصور الملكية، وبددوا خيرات البلد الغني ، ولعبوا بمصيره كما لعبوا بعقول الشعب العربي، الذي لم يكن يريد أن يصدق بزوال الحلم العربي.
وحقيقة أني أرثي لمثقفي ذلك العصر،عصر الثورة ممن كان إيمانهم بالثوار عظيم، وممن كان ولائهم منقطع النظير، وممن حاولوا إقناع أنفسهم بأن النور قادم لا محالة، وأن الفكر الحر سائد، وأنه لا صوت يعلوا على صوت الحق، وأن حقوق الإنسان مؤصلة مرسخة قائمة، وأن الشعب هو من سيحكم نفسه بنفسه، وأن العزة والكرامة والمنعة للعرب آتية لا محالة. وأن العدو مهما وأينما كان، فمصيره البحر بين أعشابه وطحالبه.
ومرت سنين تولي العسكر للسلطة بقسوة، وربط للحزام، وخوف وفقر وذل لأغلبية الشعب. فكما هو معروف عن العسكر أنهم يحبون التسلط ويعشقونه, وان الخير عندهم يخص، والشر يعم. وأنهم لا يمكن أن ينسوا شدتهم، وأن يكونوا في يوم من الأيام متقبلين للحرية، ولا للفكر الآخر ولا لحقوق الإنسان. هم معشر قوم لا يؤمنون إلا بالقوة والمباحث والمعتقلات والسجون والسحل والمقابر الجماعية والإخفاء للمعارضين خلف الشمس. ومرت البلاد معهم بحال من العبث، وأختلط الحابل بالنابل حتى حدثت الهزيمة، والتي جملوا وجهها ليغطوا خيباتهم الداخلية والخارجية بمسمى النكسة!.
وذهب جمال بثوريته، وأتي السادات بملكيته المؤدلجة، والتي كان يغطيها باسم الجمهورية، وتفرد بالمال والسلطة والقرار، وأمات الشعب من الجوع والقهر. وقامت الثورات، والتي أسماها بإنتفاضات الحرامية فقمعها. ووجد أنه لا بد له من تأصيل قانون الطوارئ، الذي يتمكن من خلاله من تجميد كل قانون، وبتر كل فكر، ومحو كل دستور لحماية نفسه وكرسيه، حتى قتل في عز الضهر.
وأتى رئيس الطوارئ مبارك بالبرشوت، بدون إنتخاب وبدون ترشيح. وكان لا بد له من استمرار قانون الطوارئ وتربعمه طوال ولايته، التي وصلت لثلاثين سنة من الفقر المقذع للشعب، ومن إنتشار الفساد، وتحطيم كل جميل في هذا البلد، ليس من أهمه حرية الفكر. ونفيت كل حقوق انسانية للمواطن، وكانه لا بد للقهر أن يستمر، ولا بد للملكية أن تعود بشكل أكثر حيطة وقوة، لم يكن لها مثيل من قبل.
جمهورية تقزم العقول، وتنفي الحريات، وتعدم المعارض، وتضيق الخناق على الفكر، وتحرق المخالفين، وتلعب بالقضاء، وتدعم الظلم، وتزعزع الأفكار الراسخة، وتزيد الفقر، وتشتت الشعب.
فلكِ الله يا أرض الكنانة، ولك الله يا شعب مصر الأبي، ولكم الله يا مبدعي ومفكري هذا البلد العظيم. وثقوا أننا نحن أيضا نموت قهرا ونحن ننظر كمراقبين للفارق الكبير بين الملك فاروق الطيع، والرئيس مبارك المتفرع المتبرعم المهيمن، الذي شبط بقاع القاع، وعزز جذوره عميقا ، فلا تعود ريح تثنيه، ولا فأس يقتلعه.