رغم كل ما جرى ويجري لمسيحيي العراق، من قتل وتهجير وخطف واغتصاب وتفجير لدور العبادة والمنازل والمحال التجارية، لم نسمع ولم نقرأ بأن مسيحياً عراقياً أقدم على قتل عراقي مسلم أو من أتباع الديانات والقوميات الأخرى.فالمسيحيون،لأسباب وطنية وعقائدية وأخرى ذاتية تخص وضعهم الأقلوي، يرفضون الانخراط في دورة العنف الطائفي والعرقي، تحت أي ظرف أو شعار، التي تعصف بالعراق منذ الغزو الأمريكي له في آذار 2003.لهذا فهم(المسيحيون)آثروا التحمل والصبر على الجراح، أو الهروب من العراق، من استطاع له سبيلاً،الى حين نهوض الدولة العراقية المعطلة أو بالأحرى المخطوفة من قبل زعماء الطوائف والميليشيات الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية.بيد أن الكثيرين يشككون بإمكانية بقاء مسيحيين في العراق لسنوات أخرى، إذا ما بقيت أوضاعهم الأمنية على ما هي عليه اليوم.فوفق العديد من المصادر، كان يقدر تعدادهم قبل الغزو الأمريكي بنحو مليون ونصف مليون.

وفق ذات المصادر، قرابة نصفهم ترك العراق هرباً من الارهاب المنظم الذي يستهدفهم لأسباب دينية وعرقية،فضلاً عن الاضطهاد الممنهج لهم لذات الأسباب، من قبل المجتمعات والقوى السياسية الاسلامية (العربية والكردية).فرغم التحسن النسبي في الأوضاع الأمنية داخل العراق، لم تتوقف وتيرة العنف ضد المسيحيين،لا بل هي في تصاعد مخيف وبعمليات نوعية أكثر دقة وتنظيماً. فبعد تصفية تجمعاتهم وتفكيك مجتمعاتهم في الوسط والجنوب(بغداد والبصرة) من قبل التنظيمات الاسلامية المتطرفة،جاء الدور على التجمعات المسيحية المتبقية في مناطقهم التاريخية في الشمال.ربما تصفية مسيحيي الشمال تحصل لأسباب وأهداف مختلفة،لكن تبقى النتيجة واحدة بالنسبة للمسيحيين،وهي القضاء على وجودهم في العراق.قبل أسابيع قليلة،استهدفت مجموعة ارهابية بالقنابل حافلات تقل طلبة جامعيين من بلدة الحمدانية (بغديدا) المسيحية الى quot;جامعة الموصلquot; تسببت في مقتل العديد من الطلبة وجرح العشرات منهم، جراح بعضهم خطيرة.هذا العمل الاجرامي الجديد وقع على مقربة من quot;نقطة تفتيشquot; مشتركة،تضم عناصر من البشمركة الكردية وأخرى عربية من قوات الحكومة المركزية، في منطقة (سهل نينوى) التي تعد من المناطق المستقرة أمنياً.استهداف الطلبة الجامعيين، من حيث الزمان والمكان والطريقة،يؤكد من جديد، وبما لا يترك مجالاً للشك، بأن المسيحيين العراقيين،وتحديداً مسيحيي الشمال، هم ضحية نزاع (كردي- عربي)،مرشح لأن يتفاقم ويتطور الى حروب ونزاعات مسلحة.

يذكر أن منظمة quot;هيومن رايتس ووتش quot; الدولية، في تقرير لها، نشرته في تشرين الثاني الماضي، أشارت الى ان الاقليات، وبشكل خاص المسيحيين، في شمال العراق هم ضحايا نزاع كردي عربي على مناطق متنازع عليها تتبع محافظة الموصل.فليس صدفة أن تتصاعد وبشكل لافت أعمال العنف ضد المسيحيين في محافظة الموصل(نينوى) منذ أن اعلنت quot;حكومة اربيلquot; بضم (سهل نينوى) الفاصل بين المناطق العربية والكردية في الشمال العراقي،الى الاقليم الكردي.الرغبة الكردية قبلت بالرفض من قبل الحكومة المركزية والمكونات العراقية الأخرى غير الكردية.على أرضية هذه الخلافات وغيرها تشهد مدينة الموصل، منذ الانتخابات المحلية الماضية(2008)، أزمة حادة في ادارة الحكم، بين قائمة quot;الحدباءquot;العربية،التي يرئسها (واثيل النجيفي) محافظ الموصل وهي تشكل الأغلبية في مجلس الحكومة المحلية،وبين قائمة quot;نينوى المتآخيةquot; الكردستانية التي يرئسها (خسرو كوران).


سبع سنوات والارهاب يفتك بمسيحيي العراق ويطاردهم من مكان الى آخر، في ظل الاحتلال الأمريكي،وفي ظل صمت عربي واسلامي،رسمي وشعبي ونخبوي،مخجل، وفي ظل تخلي الحكومات العراقية(حكومة بغداد وحكومة اربيل) عن مسؤولياتها الوطنية وواجباتها الاخلاقية والقانونية تجاه مواطنيها المسيحيين،ليس لجهة توفير الحماية لهم فحسب، وانما حتى في موضوع ملاحقة الارهابيين والكشف عن الجهات الحقيقية التي تساندهم، رغم سهولة الوصول الى تلك الجهات. إزاء هذه الأوضاع المأساوية التي زعزعت ثقة المسيحيين بالحكومات العراقية وبأجهزتها الأمنية،وبكل القوى السياسية العراقية،لم تر quot;المرجعيات المسيحيةquot;،السياسية والدينية والمدنية،من خيارات أمامها سوى مناشدة المجتمع الدولي ممثلاً بـquot;الأمم المتحدةquot;،عبر بيانات أصدرتها هذه المرجعيات بعد مجزرة طلبة بغديدا، ومطالبته بضرورة تشكيل quot;لجنة تحقيق دوليةquot; تحقق في الجرائم التي تستهدف المسيحيين العزل وبضرورة توفير quot;حماية دوليةquot; لما تبقى منهم داخل العراق.فهل سيستجيب المجتمع الدولي لصرخة آخر المسيحيين العراقيين،معظمهم من quot;الكلدوآشوريينquot;،سكان بلاد الرافدين الأوائل؟.


الصرخة التي أطلقها قبل سنوات المخرج الفرنسي (روبير آلو) المهتم بتاريخ الأديان والأقليات الدينية،وذلك من خلال فلم وثائقي أنتجه بعنوانquot; آخْر الآشوريينquot; بعد رحلة طويلة وشاقة انتقل خلالها (آلو) بين التجمعات المسيحية في كل من، العراق وتركيا وسوريا وايران، حيث تعيش بقايا quot;الأمة الآشوريةquot;العريقة،من السريان والكلدان والآشوريين.الفلم كان قد عُرض في اطار فعاليات quot;المؤتمر الدولي التاسعquot; للدراسات السريانية الذي أقامته جامعة الروح القدس في الكسليك ببيروت أيلول 2004.في حوار أجريته(الكاتب) مع السيد(آلو)على هامش المؤتمر حول رسالة الفلم، قال: quot; كشف الفلم للرأي العام الفرنسي والأوربي على أن الشعب الآشوري القديم، ما زال موجوداً، يعش على أرضه التاريخية ومناطق أجداده.وما أردته هو، أن ألفت انتباه العالم لهذا الشعب والاهتمام به، لكي لا يلفه النسيان.. أضاف: الفلم مساهمة متواضعة مني من أجل أن يبقى هذا الشعب، وهذه كانت رسالة الفلمquot;. في ضوء التردي الخطير في أوضاع المسيحيين العراقيين،حيث كاد العراق أن يخلو منهم،لا يبدو أن رسالة الفلم وصلت الى المعنيين في العالم الحر..!


سوريا
كاتب آشوري..مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]