عند الرجوع إلى الجذور الأولى في البنى العامة للمفاهيم الإسلامية التي انتقل المسلمون بين طبقاتها، تظهر بعض المصاديق التي طغى فيها الغث على السمين مما جعل الباحث لا يفرق بين الإسلام وبين من سار على نهجه، فتارة تنسب الممارسات الدخيلة إلى الإسلام بما هو إسلام من عند الله تعالى وتارة أخرى تنسب تلك الممارسات إلى المسلمين، وعند الجمع بين النسبتين نصل إلى انتفاء الخيار الذي لا مناص منه إلا إلى إلقاء العبء على المتسلطين والمتحكمين في الجمع الأكبر من الناس الذين يصعب عليهم توجيه المسؤولية إلى أصحاب الشأن الذين تلاحقهم أسباب الهزائم التي إمتدت إلى الفكر الرسالي والمنهج القويم الذي نزل به القرآن الكريم، ومن هنا بدأ انتشار الوسائل الهدامة التي أسست العناوين المهمة من حياة الأمة وما تلاها من حروب وصراعات جعلت الأطراف المعادية لا تنظر إلى سمو الرسالة إلا من طرف خفي بني على أخطاء بعض الناس الذين كان لهم التأثير المباشر في الحل والعقد والتحكم بمن هم دونهم شأناً، إضافة إلى تمكنهم من تسيير المجتمعات التي لا تستطيع الوقوف قبال الفئة المتسلطة، ولهذه الأسباب ظهرت التحولات التي أخذت الأجواء على جلال الرسالة واستقامت أتباعها، حتى وصل الأمر إلى أن ما يقابل الإكراه في الدين قد شغل الكثير من المحققين على الرغم من المسلمات الآنية التي ظهرت فروعها في أحاديث العامة من الناس دون النظر إلى محكمات القرآن الكريم مما جعل الذين في قلوبهم زيغ يأخذون الجوانب العرضية التي يقتضيها الإكراه دون التفريق بينها وبين الثوابت الإيمانية للرسل علماً أن العامل المشترك في دعوتهم (عليهم السلام) لا يقوم على الإكراه بقدر ما يعتمد على بيان الحقيقة التي أمرهم الله تعالى بتبليغها، ثم جعل المعجزات دليلاً عليها.


وبناءً على ما قدمنا يظهر أن أمر الدين الذي جاء به الرسل يعتمد على البيان دون اللجوء إلى القسر الذي لا يلتقي مع النهج السليم للدعوة، إلا أن الذي قامت به الحجة على الناس، كان مرده إلى المصاعب التي يضعها المترفون في طريق التبليغ الذي يأتي به الرسل، وهذا من أهم الأسباب التي تؤدي إلى عدم إبصار الحقائق. فإن قيل: هذا الطرح لا يلتقي مع قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين) التوبة 123. فما وجه الجمع؟ أقول: هذه الآية ونظائرها ترد إلى الموقف السلبي الذي ينتهجه المشركون، وهذا الوجه يجري في جميع الشرائع، فالقتال الذي ذكر في القرآن الكريم، لا يتضمن الإكراه في دخول غير المسلمين إلى الدين الحق، أو إظهار القوة والبطش، ولكن الغرض الأسمى منه كان مبنياً على اعلاء كلمة التوحيد وخضوع المشركين إلى الإقرار بها، أما أهل الكتاب فالأمر لا يترتب على إكراههم أو قتالهم، باعتبار أن هذا النهج كان ضمن مقرراتهم بوجه من الوجوه. فإن قيل: وماذا عن قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة 29. ألا يتنافى مع الطرح المقدم؟ أقول: هذا البيان أقرب إلى درء الأخطار التي تخرج المجتمع عن الصفة التي يمتاز بها، بسبب أن من يخضع لقانون الجزية، يدخل ضمن النظام الذي يكفل إدارة شؤونه، حتى يكون الناس بمنأىً عن نشر أفكاره أو نشر المحرمات التي اعتاد عليها وجعلها تسير تحت مسمى الشرعية التي اختارها.


من هنا يجب اتباع الأدلة والبراهين التي تؤمن لأصحابها إراءة الطريق الأسلم والصراط المستقيم، عند تعرضهم لهذا الأمر، وأنت خبير من أن العقيدة لا يمكن أن تفرض بالقهر، وإن كان بعض أهل العلم يميل إلى هذا الاتجاه، لكن الله تعالى نفى هذا النهج عن الرسل (عليهم السلام) كما خاطب النبي (ص) بقوله: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس 99. وكذا قوله: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير) الشورى 8. وقوله تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ) الشورى 48. وغير ذلك من الآيات التي تبين هذا الاتجاه، من هنا نعلم أن المنهج المتبع لدى جميع الرسل لا يمكن أن يجانب مراحل التبليغ وإن اختلفت الشرائع، كما في قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) المائدة 48. فإن قيل: إذا كان الأمر كما ذكرت ألا يكون اختلاف الناس سبباً في عدم دخولهم إلى الدين الحق؟ أقول: إذا تأملت الآيات التي شأنها نفي الإكراه إلى الدخول في الدين، تجد أن الحجج والبراهين ملازمة وحافظة لهذا الدين عن الزيغ الذي لا يفارق من يتبع المتشابه الذي تسبب في إيجاده، وجعل له تفسيراً لا يتفق مع المنهج الذي جاء به الأنبياء، فقوله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً) الكهف 29. يظهر فيه مجموعة من الأدلة تجعل الاختيار السلبي مشوباً بعدم الاطمئنان الذي يركن إليه الإنسان المجانب للصواب، ثم بعد ذلك انتقل القرآن الكريم إلى الترغيب الذي يجعل حجة أصحاب الاختيار الايجابي أكثر بياناً واطمئناناً للإعداد الإلهي، وذلك في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً) الكهف 30. وهذا البيان غاية في الظهور مما يجعل الحجة قائمة على من يختار السبل الجائرة التي تؤدي به إلى أن يكون أحد مصاديق الكبرى التي أشار لها تعالى بقوله: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) الأنعام 149. وهذه من السنن التي جرت في جميع الشرائع، كما أشار الله تعالى إلى ذلك على لسان نوح (عليه السلام) بقوله: (قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) هود 28. وفي الآية مباحث:


المبحث الأول: قال الطوسي في التبيان: حكى الله تعالى عن نوح ما قاله لقومه جواباً عما قالوه له فانه: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة) أي برهان وحجة من المعجزة التي تشهد بصحة النبوة. وخصهم بهذا إذ هو طريق العلم بالحق لا ما التمسوا من اختلاف الخلق. وقوله: (آتاني رحمة من عنده) يرّد عليهم ما ادعوه من أنه ليس له عليهم فضل، فبين ذلك بالهداية إلى الحق من جهة البرهان المؤدي إلى العلم. وقوله: (فعمّيت) يحتمل امرين: احدهما خفيت عليكم، لأنكم لم تسلكوا الطريق المؤدي اليها. والاخر أن يكون المعنى عميتم عنها، واضاف العمى إلى البينة لما عموا عنها لضرب من المجاز، لأن المعنى ظاهر في ذلك، كما يقال: ادخلت الخاتم في يدي والقلنسوة في راسي، والمراد ادخلت يدي في الخاتم ورأسي في القلنسوة. ومن قرأ بتشديد الميم وضم العين أضاف التعمية إلى غيرهم ممن صدهم عن النظر فيها واغواهم في ذلك من الشياطين والمضلين عن الحق. وقوله: (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) أنضطركم إلى موجب البينة مع العلم مع كراهتكم لذلك فيبطل تكليفكم الاستدلال بالبينة المؤدية إلى المعرفة أي أضطركم إلى حال الضرورة. ووجه آخر وهو أن يكون المراد إن الذي علي أن أدل بالبينة، وليس علي أن أضطركم إلى المعرفة. وفي قوله: (أنلزمكموها) ثلاث مضمرات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وضمير الغائب، وهو أحسن ترتيب: بدأ بالمتكلم، لانه اخص بالفعل ثم بالمخاطب ثم بالغائب، ولو اتى بالمنفصل لجاز لتباعده عن العامل بما فرق بينه وبينه، فاشبه ما ضربت إلا إياك، وما ضربني إلا انت. وأجاز الفراء (أنلزمكموها) بتسكين الميم جعله بمنزلة عضد وعضد وكبد وكبد. ولا يجوز ذلك عند البصريين، لأن الاعراب لا يلزم فيه النقل كما يلزم في بناء الكلمة، وإنما يجيزون مثل ذلك في ضرورة الشعر كقول امرئ القيس:


فاليوم أشرب غير مستحقب......إثماً من الله ولا واعل


وقال آخر:


وناع يخبرنا بمهلك سيد......تقطع من وجد عليه الأنامل


المبحث الثاني: يقول الزمخشري في الكشاف: (أَرأيتم) أخبروني (إن كنت على بينة) على برهان (من ربي) وشاهد منه يشهد بصحة دعواي (وآتاني رحمة من عنده) بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة: المعجزة، وبالرحمة: النبوّة. فإن قلت: فقوله: (فعميّت) ظاهر على الوجه الأوّل، فما وجهه على الوجه الثاني؟ وحقه أن يقال فعميتا؟ قلت: الوجه أن يقدّر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة: ومعنى عميت خفيت. وقرىء: (فعمّيت) بمعنى أخفيت. وفي قراءة أبي (فعماها عليكم) فإن قلت: فما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد. فإن قلت: فما معنى قراءة أبي؟ قلت: المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه قوله: (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) يعني أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين؟ وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعاً. ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك: أنلزمكم إياها. ونحوه: (فسيكفيكهم الله) البقرة 137. ويجوز: فسيكفيك إياهم. وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم. ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكوناً. والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر.


المبحث الثالث: قال مكي بن أبي طالب في تفسير الهداية:

قال نوح لقومه: (ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي): أي على معرفة به، وعلم.(وآتاني رحمة من عنده): أي: رزقني التوفيق، والنبوءة، والحكمة، فآمنت، وأطعت.
(فعمّيت عليكم) : أي: عميت عليكم الرحمة، أي: خفيت، فلم تهتدوا لها. والرحمة عند الفراء: الرسالة. ومن شدد فمعناه: فَعَمَّها الله عليكم، أي: خفاها. وفي قراءة عبد الله، وأُبَيّ: فَعَمَّاهَا الله عليكم وقد أجمع الجميع على التخفيف في القصص، ولا يجوز غيره. ثم قال: (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) أي: أنأخذكم بالدخول في الإسلام على كره منكم، فنلزمكم ما لا تريدون. يقول صلى الله عليه وسلم: لا تفعل ذلك بل نكل أمرهم إلى الله سبحانه. قال النحاس: (أنلزمكموها): أنجبها عليكم. وأنتم لها كارهون. وقيل: معنى (أنلزمكموها): هي شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وقيل: الهاء في: (أنلزمكموها) للرحمة. وقيل: للبينة. انتهى. وما ذهب إليه من أن الهاء في قوله: (أنلزمكموها) للرحمة: يتناسب مع اللفظ دون المعنى فتأمل.

[email protected]