يوم القدس الذي إبتدعته الأصولية اليهودية فور سقوط المدينة العربية في يد القوات الإسرائيلية الغازية عام 1967، يدرو حول دعاية باطلة تركز علي أنه احتفال ديني بتحرير الجزء الشرقي منها..

لذلك يمثل إحياؤه فرصة سنوية للكثير من السياسيين والحزبيين وزعماء المستعمرات وقيادات المتطرفين، للتعبير عن مزيد من التزييف التاريخي للبلدة مؤكدين المرة تلو المرة أنها في القلب وان التفريط فيها والتنازل عن شبر منها يعد خيانة للعهد وكفر بنعمة الرب.. من هنا تتساءل مقالة إيتان هابر بصحيفة يديعوت ( 16 مايو ) quot; أبعد كل ما ورد في شأنها ndash; تقصد القدس - بالتوراة.. هل يحتاج شعب إسرائيل الواثق من أحقيته فيها، لبرهان لكي يصدق بعد 42 عام ان هذه المدنية يهودية؟؟..
نقول لها بصراحة شديدة قد تكون موجعة..

نعم يحتاج لبراهين، لأنه يؤمن في قرارة نفسه ان القدس الشرقية ليست له مهما لجأ إلي التحايل والتزييف وسرقة التاريخ.. نعم يحتاج لبراهين، لأن العالم كله يعرف أن حكومة الإحتلال الإسرائيلية قامت بعد 20 يوم فقط من إحكام سيطرتها علي المدينة ( عام 1967 ) بتوسيع حدودها حيث أضافت نحو 64 ألف دونم إلي زمام بلديتها وألحقت بها 28 قرية فلسطينية تمهيداً لما جري منذ ذاك التاريخ وحتى اليوم من بناء للمستعمرات فوق أراضيها ونهب للمتلكات وإستيلاء علي الحقوق.. نعم يحتاج لبراهين، لأن المطالبة بإستعادة القدس الشرقية تُمثل كابوساً سياسيا له ولحكامه منذ 42 عام خاصة بعد أن نصت عليها بنود اتفاقات أوسلو عام 1993 وبيان مؤتر كامب ديفيد 200..
دأبت الحكومات الإسرائيلية منذ عام 67 علي تدمير الذاكرة التاريخية والقومية والدينية للشعب الفلسطيني، وهي إن كانت تكرر بلا وعي أن إعادة الجانب الشرقي من المدينة للفلسطينين يمثل كسر لقلب إسرائيل.. فلا بعد أن تعي هي وشعبها أن كل هذه الممارسات لن تحقق لها هدفها وسيأتي اليوم الذي ستضطر فيه إلي التسليم بحقوق الشعب الفلسطينى في شرقي القدس..

الخشية الإسرائيلية من التفوق العددي للسكان العرب المقدسيين منذ عام 67، لا زالت قائمة بعد مرور 42 عام علي أحتلال القدس وبرغم العمل الدؤوب بكل طاقة لتهويدها.. وهناك من التقارير ما يفيد بأن ثلثي سكان المدينة من اليهود سيتقلصون إلي ما دون الـ 50 % من سكانها في غضون 10 سنوات..
الحقيقة التى تعمل حكومات تل ابيب علي طمسها، هي أن مجموع الـ 200 ألف مستعمر الذين زرعتهم إسرائيل بين الاحياء العربية لا يوفرن الطمأنينة التى تبحث عنها دائما.. لأن سياساتهم علي امتداد العقود الماضية رسخت التضاد والإستعلاء بين السكان اليهود !! فالعلمانيون منهم لا يستطيعون السكني بين اليهود الأصوليون، وقد فر الألآف منهم بعد اشهر قليله من تجربة التجاور معهم.. أما الأصوليون الذين حاولوا تجربة العيش بين ظهراني العلمانيين فيمثلون كابوسا لغيرهم كان من بين فصوله الشجار الذي جري منذ بضعة اسابيع في حي كريات يوفيل.. ناهيك عن امسيات ايام السبت التى يتحكم فيها الأصوليون من رقاب غيرهم في كل شئ أمام أعين الشرطة الساكنة..

اما غالبية العلمانيين اليهود من سكان المدينة فيقيمون في الأساس بمستعمرة موشافا جرمانيت ndash; التى قام بتأسيسها اليهود الألمان ndash; ومستعمرة بين هيكرم، وكلتهما بعيدة نسبياً عن الأحياء التى يسكن بها الأصوليون..


لذلك يصف بعض المحللين الأوربيون الأحياء السكينة التى توالي حكومات إسرائيل إقامتها في شرقي مدينة القدس بأنها quot; جيتو quot;، بل إننا نؤكد أن هذا الوصف جاء أكثر من مرة علي لسان روبي ريفلين رئيس الكنيست الحالي.. الذي يسكن في واحداً منها !!..
ولتأكيد العمل علي سحق الذاكرة الفلسطنية المقدسية علي كافة المستويات قامت إسرائيل بإسكان المئات من اليهود داخل الأحياء العربية للمدينة في أبوديس ورأس العمود وسلوان وجبل المكبر والشخ جراح، وفي مقابل حرصها علي توفير الدعم المادي والمعنوي لهم تتعمد حرمان الأحياء العربية من الخدمات الأساسية وترفض تجديد البنية التحتية بها ولا تتورع عن هدم البنايات بموجب أحاكم قضائية يتم إستصدارها بعد تقديم مستندات مزورة إلي المحاكم المدنية يشهد بصحتها أناس مأجورون..
ورغم ذلك تزداد كل يوم موجات الفرار اليهودى من غربي المدينة، تقول الإحصاءات الرسمية أن من يغادرونها كل عام يبلغ عددهم نحو 17 ألف يهودي !!، فإلي جانب التعصب الأصولي الذي يقلق راحة غالبية اليهود هناك الأسعار المتضاعفة للسكنى والتى لا يقدر عليها إلا فئة ضئيلة ndash; تفضل السكني بعيداً ndash; وهناك قلة فرص العمل.. والأهم من ذلك إنعدام فرصة الإندماج حتي بين السكان اليهود !!..

كتب شالوم بروشالمي في معاريف ( 11 مايو ) أن القدس تغرق في الوحل !! لأنها تعاني من مشاكل إقتصادية عميقة بسبب هجرة الفئات السكانية القوية لها بعد فشلهم في الإستقرار فيها لأسباب أصولية، وقرارات عشوائية، وتخطيطات غير قابلة للتنفيذ علي أرض الواقع، ومشاريع خيالية فاسدة مثل الهولي لاند والقطار الخفيف وجسر الأوتار..
المسلمون والمسيحيون من الفلسطينيون لا يشككون في تاريخ القدس كما إدعي نداف شرجاري بصحيفة هآرتس منذ عام ( 20 مايو 2009 )، إسرائيل هي التى تقوم بهذه العملية وتتعمد تغيير هوية المدينة الدينية والقومية.. وكل ذلك لن يحقق العدالة التاريخية للشعب اليهودي في القدس، لأن ما هو ثابت وموثق من دلائل عربية علي المستويين التاريخي والديني يؤكد أن التاريخ اليهودي للمدنية شكلي ومؤقت.. ولا يعد هذا القول مناهضاً لليهود كما لا يجب الإدعاء بأنه متناقض مع روح القانون، لأن كلا الإدعائين يقفان في صف التاريخ العربي المسجل لمدينة القدس العربية الأصل والمنشأ.. لذلك لا محل للترويج لمكانة المسجد الأقصي بأنه يمثل المركز الثالث بين أقدس المساجد عند المسلمين، بينما هو يمثل المركز الأول عند اليهود..


سحق الذاكرة الفلسطينية المقدسية إرتكز في المقام الأول علي تفتيت البنية التحتية ومستوي الخدمات في شرقي المدينة، هناك عشرات الألآف الذين يعيشون بلا مصدر مياه صالح للإستخدام الآدمي وبلا شبكة صرف صحي.. وليس لديهم خدمات صحية او تعليمية او اجتماعية، فلا يوجد حالياً مكان في الفصول الدراسية الأولية لأكثر من 9 ألاف طفل فلسطيني في سن بداية التعليم..

سحق الذاكرة الفلسطينية خطط منذ سنوات لتحويل السكان العرب إلي كيانات مهمشة لا وزن لها.. تقول تقارير جمعية حقوق المواطن ( إسرائيلية ) أن ثلثي سكان القدس من العرب quot; يعيشون تحت خط الفقر quot; بعد أن أستولت سلطات الإحتلال علي ثلث أراضيهم منذ عام 67 quot;، بينما تؤكد تقارير أخري أن هذه الحالة الإقتصادية والإجتماعية المتدنية جعلت 160 ألف مقدسي عربي يقيميون في بيوت بنيت بلا ترخيص من إدارة الإحتلال، يعيشون كل يوم في انتظار تنفيذ اوامر الهدم التى ستصدر ضدهم إن عاجلاً وإن آجلا ً..
في نفس الوقت أعتمدت الحكومات الإسرائيلية دائماً علي سلاح الجمعيات اليمينية المتطرفة لسحق الذاكرة الفلسطينية.. ومنحتها الحق المزيف الذي تحميه قوة الجيش لكي يدقوا أوتادهم في قلب الأحياء العربية في القدس الشرقية.. ووفرت لهم الأحكام القضائية المدلسة لطرد العائلات الفلسطينية من مقار سكناها التى بقيت فيها عشرات السنين بمساعدة قوات الشرطة وحرس الحدود..

في الختام نقول من واقع رمزية ومكانة القدس وقدسيتها في قلوبنا.. دون تسوية عادلة ودائمة ومستقرة بين الجانبين الفلسيطينى صاحب الحق التاريخي والأصيل والإسرائيلي المُحتل علي كافة المستويات حق العودة والحدود واستعادة القدس الشرقية والتعويض عن سنوات النهب والابتزاز، لن يكون هناك سلام في المنطقة!

bull;استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا [email protected]