بعيدا عن مفهوم التحضر Urbanisation في الانتقال من الريف إلى المدينة وما يترتب على ذلك من تغير في خصائص السكان الريفيين على مستوى العادات والتقاليد باتجاه المجتمع المدني، حيث ينطوي مفهوم التحضر على أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية ترافق عملية الانتقال أو تليها بعد حين، وهو أي التحضر نقيض عملية الترييف التي حولت المدن الى مجتمعات ريفية قروية بكل تقاليدها وعاداتها وسلوكياتها. إذاَ نحن هنا أمام عمليتين متعارضتين تماما: وهذا ما حصل فعلا حيث برزت عملية ترييف المدن Transplantation منذ بدايات قيام الدولة العراقية وظهور النفط وتأسيس بعض معامل الطابوق حول المدن والتي تسببت في هجرة عشوائية لمجاميع من فقراء الأرياف القريبة منها الى أطرافها، طلبا للعمل او هروبا من ضنك العيش وتخلف الحياة ووسائلها في تلك الارياف، الا انها اصبحت اكثر انتظاما وتوجيها قبيل اسقاط النظام الملكي وبعد قيام الجمهورية، حيث بدأت بالظهور مجموعات سكنية ريفية على شكل احزمة من الصفيح والصرائف حول كثير من المدن الكبيرة في انحاء العراق وبالذات العاصمة بغداد والمراكز الصناعية والتجارية والبترولية مثل البصرة والموصل وكركوك، ومع التغيير الاجتماعي والاقتصادي الذي افرزه تغيير النظام الملكي وقيام الجمهورية بدأت ظاهرة الهجرة من الريف الى المدن بشكل عام تتضاعف حتى تمت برمجتها وتوظيفها لخدمة انظمة الحكم القائمة بعد انقلاب 8 شباط عام 1963م وبالذات في كركوك والموصل وديالى وبلداتهم من اجل إحداث تغيير ديموغرافي في التركيبة السكانية لتلك المدن لصالح عرق معين او قومية معينة، مما تسبب في خلق صراعات اجتماعية وسياسية حادة ومشاكل عقارية وزراعية كبيرة ادت الى تعقيدات حادة بين مكونات البلاد القومية والعرقية والدينية وتخلف كبير في البرامج الإنمائية الخاصة بتلك المدن والبلاد عموما. لقد اعتمد النظام السابق وحزبه على آلية عسكرية وامنية تمخضت عن نقل مئات الآلاف من القرويين المتطوعين في الجيش والحرس الجمهوري والأجهزة الأمنية الخاصة والمرتبطة بقيادة الحزب الحاكم آنذاك، إضافة الى عشرات الآلاف من أبناء العشائر التي استقدمت الى تلك المدن وحولها على شكل أحزمة أمنية او تجمعات زراعية عسكرية من قرى وأرياف الجنوب والوسط الى مراكز تلك المدن وأطرافها حيث تم توزيع قطع الاراضي والقروض والتسهيلات لبناء تلك القرى والأحياء التي استحدثت لهم تحت مختلف التسميات وعلى سبيل المثال وليس الحصر:
وربما كانت هناك محاولات لأحداث عمليات تحضر في بعض المدن العراقية من خلال برامج اولية لم ترتق الى برنامج وطني كبير وان البعض حاول في اول عقد السبعينات من القرن الماضي إحداث هجرة معاكسة للقرويين الى قراهم إلا أن العملية باءت بالفشل لاعتماد مفاصل مهمة من النظام آنذاك على تصورات مناقضة تماما لذلك التوجه.
عملية التحضر من جهة، وعملية الترييف في الجهة المقابلة، أو بلغة السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر ( Max Weber )، إننا بصدد نموذجين متضادين من ( القيم والسلوكيات وأشكال التنظيم وأنماط الفعل والتأثير والتدبير...)، نموذج التحضير والذي يؤكد مركزية المدينة وهيمنتها، بكل ما يعنيه ذلك من نشر وانتشار للقيم الحضرية واكتساحها للمجال، ونموذج الترييف الذي تستحيل معه المدينة كفضاء إلى مجرد حاضنة لإعادة تفريخ وإنتاج نفس القيم والعلاقات القروية.
( أحياء الرفاق والبعث والعقيدة و7 نيسان و17 تموز والميثاق والتحرير وصدام والنصر والصداميات والوحدة والزراعة والاصلاح الزراعي والقادسية والشهداء... )
وعشرات من هذه الأسماء المعروفة في كل المدن العراقية، حيث يشكل أبناء الريف والقرى الأغلبية الساحقة منهم وبالذات من العسكريين ومنتسبي الأجهزة الخاصة وحزب السلطة الذين شكلوا احزمة قروية وبدوية حول معظم المدن العراقية وبالذات بعد منتصف السبعينات وحتى سقوط النظام.
وقد رافق هذه العملية نقل كلي لموروثات الريف وسلوكياته وانماط العيش فيه من عادات وتقاليد الى تلك الاحياء التي بقت تعاني لحد هذا اليوم من الفارق الكبير بينها وبين المدينة الاصلية اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وسلوكيا مما ادى الى ظهور احساس بوجود طبقتين في كل مدينة من المدن العراقية من غير نظام الطبقات المعروف اجتماعيا واقتصاديا، وهما طبقة المدينيين ( أي سكان المدينة الاصليين ) وطبقة القرويين او الريفيين الذين قدموا من القرى والارياف، مع ما يعني هذا الاحساس من توصيف لكل طبقة في السلوك والثقافة والاداء اليومي في الحياة بل والتباعد النفسي والاجتماعي احيانا بينهما.
- آخر تحديث :
التعليقات