الرؤية الاكبر التي يمكن استنتاجها من واقع التغيير الحاصل في المشهد الكردستاني، بعد تقلص الحجم السياسي للحزبين الرئيسين في الاقليم، الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني، في انتخابات برلمان كردستان ومجلس النواب، وظهور حركة معارضة لها حضورها الملموس، هي ان الاتحاد الوطني بزعامة الرئيس جلال الطالباني تعرض الى اخفاق وجابهته وقفة مصيرية ناتجة عن ازمة سياسية عانى منها من زمن طويل وأدت بالأخير الى خروج مجموعة حركة التغيير منه، وهذه الحركة تمكنت من حجز مساحة نفوذ لها في مناطق نفوذ الاتحاد، ولكنها ما زالت بعيدة عن مناطق نفوذ الديمقراطي الكردستاني.

وبناءا على الواقع الجديد، قام الاتحاد بتشخيص اسباب الاخفاق من قبل قيادته و عقد مؤتمرات انتخابية على صعيد تنظيمه الحزبي لاختيار الممثلين للمؤتمر المنتظر عقده في الاول من حزيران، وبينت نتائج الانتخابات ظهور وجوه جديدة على الساحة الحزبية وغياب وجوه قديمة، وهذا يعني ان الاتحاد مقبل على تغيير وتجديد دمائه، بعد ان تأكد من وجود اخطاء كبيرة في سياق الاداء العام للاتحاد على الصعيدين الحزبي والحكومي في السنوات الماضية، بسبب غياب الحضور السياسي والاداري للاتحاد في بعض المناطق خلال العقد الماضي بسبب الصراعاة السياسية السابقة بين الحزبين الرئيسين على السلطة في الاقليم، وادارة الحملات الانتخابية بطريقة غير موضوعية وبعيدة عن الدراية بالنظام الانتخابي المعمول به حاليا في العراق، وعدم مراعات السيكولوجية الخاصة التي تتمتع بها المناطق الكوردية، والتعامل على اساس قاعدة الفعل ورد الفعل والانجرار وراء المظاهر الاعلامية الصاخبة، والاعلام الانفعالي الذي تبنته الاجهزة الاعلامية للاتحاد خلال الحملة الانتخابية.

هذا الموجز من التشخيص، وأسباب اخرى، تمكنت قيادة الاتحاد الوطني من تحليلها وتقيمها برؤية شفافة وجرأة سياسية تعود عليها الاتحاديون، لوضع ارضية متينة للاصلاح والتجديد تستوعب الواقع الجديد الذي اخذ طريقه الى الساحة السياسية الكردستانية، وهو مستنبط من التعامل المباشر والتماس مع الاحداث والوقائع في الاقليم والعراق والمنطقة للتفاعل معها بموضوعية وواقعية ومسؤولية.

هذه الوقفة للاتحاد الوطني جعلته ان يراجع نفسه وان يستريح استراحة محارب للتهيوء بروحية ومعنوية عالية للسنوات القادمة، لاعادة حساباته وفق رؤية جديدة بعيدة عن الشعارات والوعود البراقة، وبالرغم من ما تعرض له الاتحاد في انتخابات البرلمان الكردستاني في تموز الماضي، من كبوة سياسية، الا ان المشهد الجديد للاصوات في انتخابات مجلس النواب، والانتخابات الحزبية، فتح بابا واسعا للامال ليجدد الاتحاد نفسه بعد ان اثبت انه مازال حزبا حيا واتحادا قويا، لا يمضي بمجرد حركة نسيم، ومازال يمتلك القدرة على البقاء والثبات في مواقفه ونضاله السياسي.

هذه الأرضية الجديدة في تثبيت وجود حزب مقتدر، له حضور نضالي متميز منذ اكثر من ثلاث عقود على الساحتين الكردستانية والعراقية، وروحية التجديد التي غرسها في تنظيماته وعمله الحزبي، تسمحان للتأمل بتقديم رؤية سياسية ممكن ان يستفاد منه الاتحاد من خلال استخلاص قراءة مفردات الاحداث السياسية والاقتصادية والحركة التجارية في العراق واقليم كردستان، والاستفادة من خلاصة العملية السياسية والديمقراطية التي مر بها البلاد في السنوات الماضية.

وهذه الرؤية يمكن طرحها لزعامة وقيادة الاتحاد الوطني للضرورات السياسية والتاريخية والنضالية التي يمر بها الواقع الكردستاني والعراقي، وهي تقترح على جلال الطالباني الامين العام للاتحاد ونائبيه كوسرت رسول علي والدكتور برهم صالح، تبني برنامج عمل فعال لاعتماده كخارطة طريق لاصلاح الحزب والانتقال به الى مرحلة جديدة قادرة على تلبية الاحتياجات والمطالب السياسية والادارية والخدمية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لاعضائه وانصاره ولكل الكردستانيين، والبرنامج المقترح يتضمن ما يلي:

اولا: تبني نموذج قيادة حية متفاعلة مع متطلبات التجديد، وكسر تقليد الزعيم الاوحد المفروض على الاحزاب الكردستانية من قياداتها، وذلك من خلال اسناد موقع باسم الزعيم الفخري للاتحاد الى الرئيس جلال الطالباني تقديرا له وللتفرغ كليا للمهام السياسية العراقية ولموقع رئاسة الجمهورية في حالة ترشيحه لولاية ثانية، والالتزام الاخلاقي والنضالي والتأهيلي يوجب ان يختار الاتحاد كوسرت رسول علي لموقع الامين العام والدكتور برهم صالح نائبا، لان القيادي كوسرت ضامن حقيقي للحزب وصمام الامان لبقاء وتواصل الاتحاد، وهذه القيادة الحريصة ناضلت وساهمت بكل مسؤولية تاريخية في ولادة كيان اقليم كردستان والحفاظ عليه بقيادة مشتركة مع رئيس الاقليم مسعود بارزاني على ارض الواقع وساهم بتفاني على ابعاد المنطقة من مخاطر حقيقية تعرضت لها، وعمل بفعالية على ضمان الحرية في منقطة نفوذ الاتحاد مما ساعد على ظهور حركة تغيير المعارضة لتوفر اجواء حقيقية للحرية والتعبير الحر عن الرأي، ولولا حكمة نائب الامين العام السياسية في ادارة الاوضاع في حينه لوقع الاقليم في متون حرب داخلية خاسرة للجميع، والمعروف عنه باعتراف قادة واعضاء الحزب دوره التاريخي والحيوي والهام في انقاذ الاتحاد الوطني لمرتين خلال مسيرته النضالية.

ثانيا: تخويل الامين العام للاتحاد ونائبه بعد المؤتمر بصلاحيات كاملة منه، لضمان ادارة فعالة للاتحاد وترك حرية العمل لقيادة جادة ومخلصة تقدر بافكارها وحضورها الحيوي ان تعمل الانتقال بالاتحاد من مرحلة الجمود الى النهضة الحية، وترك الامين العام للتفرغ والاشراف الكامل على تطبيق وتنفيذ توصيات ونتائج المؤتمر في المرحلة اللاحقة والعمل على ضمان تحقيق برامج وخطط عملية لخدمة اعضاء وانصار الاتحاد ومواطني الالقيم.

ثالثا: تبني الفكرة الوطنية للحزب، العقيدة الفكرية، على أساس الاشتراكية الديمقراطية بوضوح وبيان المعالم الاساسية لها وفق اطر محددة ومفهومة ومقروءة لكل منتمي للاتحاد ولكل كردستاني، ومبنية على اسس قادرة على كسب المواطن لدعم وتبني البنيان الفكري لترسيخ الانتماء الوطني، ومستندة الى المباديء الاساسية للحرية وحقوق الانسان لضمان حياة الفرد الكردستاني والعيش بكرامة، وفي حالة النجاح في وضع ديباجة ومسودة هذه الوثيقة على اساس المنهج الفكري للحزب، سيكون الاتحاد الوطني اول تنظيم سياسي عراقي وكردستاني على مدى التاريخ الحديث للبلاد، يتبنى وثيقة اساسية مبدئية لتثبيت مقومات فكرة الانتماء الوطني على اسس انسانية وعملية وعلمية.

رابعا: تبني برنامج اقتصادي شامل للانماء والتنمية لجميع اعضاء وانصار الاتحاد اعتمادا على رؤى وبرامج ومشاريع سياسية واجتماعية واقتصادية يقوم به الحزب اعتمادا على كتلته المالية وصناديق ممولة ممكن اطلاقها من خلال افكار مصرفية وتجارية واستثمارية، وبمشاركة جماعية من خلال ربط تلك المشاريع بتماس مباشر مع اعضاء الحزب وانصاره واصدقائه جميعا، لكي تعود منافعها العامة اليهم بطريقة مباشرة، واعتمادا على نهج فكري عملي تطبيقي يمكن استنباطه من الواقع الاكاديمي والاقتصادي والتجاري والاجتماعي في الاقليم.

خامسا: تقديم رؤية سياسية واقتصادية وتجارية، وبوثيقة مدونة، لكسر الاحتكار والاستغلال غير المشروع للرساميل والشركات والكتل المالية التي تتحكم بالمقدرات الاقتصادية للاقليم، والتي تقود الاسواق وفق مصالحها دون نراعاة لحقوق المستهلك ولحياة المواطن الكردستاني، وفرض شروطها الشرائية والسوقية والتجارية والمصرفية والمالية دون اي اعتبار وحساب لحقوق المواطنة، وكأن المواطن بماهية رخيصة لا يستحق الا ان تعرض لها اغذية وادوية فاسدة وسلع بعيدة عن ادنى المواصفات، والمصيبة ان الحكومة لا تقدر على محاسبة هؤلاء المقتدرين من التجار والمسؤولين بسبب سطوتهم وسيطرتهم وتمتعهم بنفوذ كبير على مستوى الاقليم، ولهذا تنبيه البرلمان والحكومة والرئاسة بهذه الوثيقة ضرورة وطنية من الاتحاد للوقوف بوجه المافيا الاحتكارية التي تسيطر على زمام الامور الاقتصادية والتجارية في الاقليم.

سادسا: دراسة الواقع الاجتماعي والفكري والثقافي للاقليم خلال عقدين، بمهنية وموضوعية من قبل خبراء ومختصين، للخروج منها بوثيقة مستقبلية لمنظور الاحداث للتهيؤ للمستقبل السياسي والجغرافي للمنطقة وتطوراته اللاحقة على المديين القصير والبعيد، والاسترشاد بها في تنفيذ الخطط والبرامج التي يقدم عليها الاتحاد مستقبلا، اعتمادا على مبدأ اساسي هو رعاية المصالح العليا للكردستانيين.

سابعا: تقديم رؤية اقتصادية وفق الية خارطة طريق لقراءة مسار الاقتصاد والحركة التجارية والاستثمارية في الاقليم، ومراقبة خطوطها البيانية لكي لا تخرج عن مساراتها الطبيعية في الحاضر وعلى مدى السنوات القادمة، ولكي لا تقدم الاتجاه السائر للرأسمالية الجشعة الراهنة المتحكمة بمقدرات الاقليم على ابتلاع المواطنين ورميهم في بحر من الفقر المدقع، ودفع الحكومة الى مراجعة قانون الاستثمار وتبني الية وطنية جديدة لتحديد التسهيلات المقدمة في مجال الاستثمار وعد الافراط بحقوق الشعب، ودفع البرلمان الى اصدار قانون وطني خاص بخدمة مواطني الاقليم من خلال تقديم قروض طويلة بضمان حق المواطنة وتسهيلات اساسية ومستلزمات ضرورية في مجال تنمية المشاريع الصغيرة على مستوى الافراد لانها الاساس في النهضة الاقتصادية للمجتمع والدولة.

ثامنا: اعتماد وثيقة عمل خاصة بدراسة ومعالجة ظاهرة واقع الفروقات الطبقية للمستويات الاجتماعية والمعيشية والحياتية الشاسعة والمتابينة بين أقلية ثرية متسمة بالترفيه الخيالي وأغلبية فقيرة لا تتوفر لبعض منها ابسط مقومات الحياة، ومنح هذه القضية الاجتماعية الحقيقية التي يعاني منها المجتمع الكردستاني الاهمية القصوى لانها بدأت تستفحل وتسبب مشاكل وازمات اجتماعية واخلاقية من الصعوبة السيطرة عليها في المنظور البعيد.

هذا باختصار، رؤية فكرية وسياسية وضعت على اساس الموضوعية والواقعية، مطروحة امام الامين العام للاتحاد ونائبيه ومسؤولي الاتحاد الوطني للاستفادة منها في مؤتمره القادم، وهي تحمل نظرة عملية وتحليلا تطبيقيا للمشاهد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على الساحتين الكردستانية والعراقية من واقع احترام العملية السياسية والديمقراطية في العراق والاقليم، نأمل ان تكون نافعة لمن يهمه الامر في كردستان العراق.


* رئيس تحرير مجلة بغداد