من البديهي القول أن العراق غدا رهينة بيد إيران منذ عام 2003 وإن هذه الأخيرة تشبثت بما حققته من اختراقات ونفوذ داخل العراق وفي مناطق أخرى، من أجل حسابات استراتيجية وعسكرية لاحقة قد تفرض نفسها في أية لحظة في حال تهورت إسرائيل وخلخلت توازنات القوى القائمة، وهو أمر غير مستبعد إن لم نقل محتمل جداً في ضوء التطورات الدبلوماسية الأخيرة المتعلقة بالملف النووي الإيراني، والتي تجسدت بالاتفاق الذي أبرمته إيران مع تركيا والبرازيل والقاضي بتبادل اليورانيوم المخصب والعالي التنقية داخل الأراضي التركية، أي خارج إيران، تلبية لمطالب الدول الكبرى واللجنة الدولية للطاقة الذرية، وهذا يشكل تنازلاً إيرانياً لم يكن متوقعاً قبل ساعات من توقيع الاتفاق، بيد أن الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، باستثناء الصين، ما زالت تشكك بالنوايا الحسنة لإيران وتستعد لمناقشة مشروع فرض عقوبات جديدة عليها أو على الأقل تشديد العقوبات القائمة حالياً، لا سيما بعد سوء التفاهم والمناوشات الدبلوماسية الأخيرة بين طهران وموسكو إثر اتهام أحمدي نجاد لروسيا بالخضوع والانصياع للإملاءات الأمريكية وانزعاج روسيا من هذه التصريحات غير اللائقة واتهامها لإيران بعدم التعاون الكافي والمماطلة والغموض أو عدم الوضوح تجاه المجموعة الدولية بشأن برنامجها النووي. وقد وصفت الدول الغربية الاتفاقية الإيرانية التركية البرازيلية بأنها هشة و لا تقدم الضمانات الكافية، بمعنى آخر، إن أزمة الثقة ما تزال موجودة وما برحت تتفاقم بين الإيرانيين والغربيين. فأغلب الدول الغربية تعتقد بان إيران تضمر عكس ما تظهر، وإنها تحاول كسب الوقت واستغلال حسن نوايا وسذاجة الدولتين الوسيطتين، أي تركيا والبرازيل، لفرض الأمر الواقع بعد فوات الأوان. إلى ذلك يلاحظ المراقبون والمحللون الاستراتيجيون أن الاستفزازات المتبادلة مستعرة بين الإيرانيين والإسرائيليين، سواء كان ذلك عبر وسائل الإعلام أو من خلال المناورات العسكرية التي يجريها البلدان ويوجهان من خلالها الرسائل والتهديدات مما يسمم أجواء التفاوض والحوارات التي يرغب بها البعض مع إيران قبل اللجوء إلى خيار العقوبات والمقاطعة كخطوة أولى نحو خيار الحسم العسكري واستخدام القوة.

والحال أن الضحية الأولى التي ستدفع الثمن باهظاً هي الشعوب الواقعة بين مطرقة الإسرائيليين والغربيين وسندان الإيرانيين، وأقصد بهم الشعب العراقي المظلوم والشعب اللبناني المسكين والشعب الفلسطيني العاجز والمغلوب على أمره فهذه الشعوب خاضعة بطريقة أو بأخرى لابتزازت وهيمنة القوى والميليشيات المسلحة الموالية لإيران، وهذه الشعوب هي الضحية وهي الرهينة المسلوبة الإرادة في هذه اللعبة الخطرة التي تحتدم وتتفاقم يوماً بعد يوم بإيقاع متسارع، وقد تنفجر في أية لحظة، اليوم أو غداً أو بعد غد أو في القريب العاجل إذا لم تتوصل الأطراف المعنية بهذا الصراع إلى تسوية مقبولة من قبل الجميع. فنتائج هذه المعادلة السياسية والاستراتيجية باتت معروفة منذ زمن طويل. فمراوغات إيران في نقاشاتها مع الغرب وتقدمها الحثيث نحو السيطرة على التقنية النووية وامتلاكها للدورة النووية الكاملة، وتردد الأمريكيين في عهد باراك أوباما، قد شدد من شعور الإسرائيليين بالعزلة ووقوفهم وحيدين أمام الخطر النووي الإيراني الذي ربما سيهدد وجودهم حسب اعتقاد المواطن الإسرائيلي العادي.


لقد صرح الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بأن إيران أصبحت بحكم الواقع قوة نووية. ولكن لم يأخذه أحد على محمل الجد عدا الإسرائيليين. فالمراقبون الدوليون يشككون في ذلك ويعتبرونه استباقاً لواقع بغية إثارة أزمة دولية من أجل تأجيج المشاعر القومية والوطنية بغية استغلالها لتقوية وتدعيم سلطته التي تعرضت للاهتزاز إثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة والاحتجاجات الجماهيرية ضد نتائجها المزورة، وتفاقم الأوضاع الاجتماعية والمعيشية للإيرانيين بسبب اتباع سياسة اقتصادية ديماغوجية وإهدار للمال العام وانخفاض القدرة الشرائية لدى الطبقة المتوسطة. في حين تمتنع أجهزة الاستخبارات الغربية وعلى رأسها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية سي آي أ عن تقديم رأي قاطع وحاسم بهذا الصدد. فعلى مكاتب الرؤساء في أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا تقارير فضفاضة وغامضة غير قادرة على تقديم إجابة حاسمة بشأن امتلاك أو عدم امتلاك إيران للسلاح نووي حتى لو كان بدائياً. إن تصريح أحمدي نجاد، الذي يذكرنا بتصريحات صدام حسين النارية الفارغة، قد برر للمجتمع الدولي إطلاق عمل دبلوماسي كبير وصارم حيال إيران لكن غموض الموقف الأمريكي وافتقاد الأدلة القاطعة يجعل من الصعب على ألأمريكيين التلويح من الآن بالخيار العسكري رغم كونه مطروحاً على الطاولة كأحد الخيارات الممكنة، نظراً للسابقة العراقية بخصوص خدعة أسلحة الدمار الشامل. الروس والصينيون يماطلون في الأمم المتحدة ويبدون شكوكهم للحد من فعالية العقوبات وتعميمها ضد نظام طهران لأنهم يعرفون عدم نجاعتها سلفاً. أما المتخصصون بالشأن الإيراني في مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية فيلزمون جانب الحذر متذرعين بذريعة وجود صراعات وتنافس بين مراكز القوى اخل النظام الإيراني نفسه حيث أن العمل العسكري قد يؤدي إلى عكس ما يرجوه الغربيون لأنه سيزيد من لحمة الإيرانيين والتفافهم حول قيادتهم بدوافع الوطنية والذود عن سيادة البلد، مما يعزز من قوة وسيطرة المتشددين. في تل أبيب تجري الأمور في إيقاع آخر. فتصريح الرئيس الإيراني دق ناقوس الخطر، فحتى لو كان مجرد خدعة أو مفردة من مفردات الحرب النفسية، على غرار تصريح صدام حسين بإحراق نصف إسرائيل، إلا أن إسرائيل لا يمكن أن تخاطر بتجاهل دلالات مثل هذا التصريح، والنقاشات حادة على صفحات الجرائد والافتتاحيات والبرامج التلفزيوينة وأروقة وزارة الدفاع والموساد، هل يمكن لإسرائيل أن تسمح لأعدائها المعلنين إمتلاك سلاح نووي أو أسلحة تدمير شامل؟ وماذا يتعين على تل أبيب أن تفعل؟ هل يمكنها أن تخاطر بتسديد ضربة استباقية لإيران لتدمير المنشآت النووية عل غرار ضربة مفاعل أوزيراك العراقي سنة 1981والمنشأة النووية السورية سنة 2009 وهي في طور النطفة؟ حتى لو أدى ذلك العمل إلى خلق أزمة دولية خطيرة ؟ علما بأن الظروف الدولية قد تغيرات وغير مواتية والمعطيات غير قابلة للمقارنة. ففي العراق كان الهدف وحيداً ومعروفاً ومحدداً بدقة، وكان العراق مشغولاً بالحرب مع إيران، والحال أن الأهداف متعددة وبعضها مخفي تحت الأرض بمئات الأمتار وموزع على مساحات واسعة وشاسعة ومنتشرة على طول البلاد وعرضها في إيران، وبعضها موجود وسط السكان المدنيين، ولا يمكن لعدسات الأقمار التجسسية رصدها أو كشفها بسهولة، ومع ذلك عدنما تكون الدولة العبرية أمام امتحان فعليها أن تختار بين إثنين: إما أن تضرب أو أن تضرب هي الضربة الأولى، فلا يوجد زعيم إسرائيل واحد يمكنه أن يخاطر باحتمال تعرض بلده للهجوم وبالتالي يختار الزعماء على اختلاف مشاربهم شن الهجوم الاستباقي مهما كانت ردود الأفعال الدولية على البقاء مكتوفي الأيدي. فالاستعدادات للضربة العسكرية جارية على قدم وساق تحسباً لكافة الاحتمالات في إسرائيل بعيداً عن أنظار الإدارة الأمريكية، وحتى لو علمت هذه الأخيرة بما يدور في الخفاء فإنها ستغض الطرف، والحال أن تل أبيب قادرة على وضع واشنطن أما الأمر الواقع لكنها لا تقوى على مواجهة فيتو دولي تؤيده الولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كانت إسرائيل قد تعرت وبان ضعفها في مجال حرب العصابات والاشتباك مع ميليشيات مسلحة على غرار حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، فإنها بارعة وقوية جداً في مجال الحرب التكنولوجية التي ستظهرها بمظهر المعتدي ويظهر خصمها بمظهر الضحية الضعيف مما سيعني ان العالم بأجمعه سيدين الاعتداء الإسرائيلي الغادر على المدنيين الآمنين في المدن الإيرانية مما سيجعل الشارع الإسلامي يغلي من الغضب وحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي سيمطرون المدن الإسرائيلية بوابل من الصواريخ بما فيها تل أبيب وستضطر مصر إلى استدعاء سفيرها من تل أبيب وتستعر حملة معاداة السامية في بلدان آسيا الإسلامية وتحتج روسيا والصين كما لو أنهما ما يزالان في حقبة الحرب الباردة وقد يقود ذلك إلى استخدام الدول المنتجة للنفط سلاح البترول مرة أخرى مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار برميل النفط الخام وتنهار أسواق المال أو البورصات العالمية وسيعتبر الإسرائيليون أنفسهم أنهم ضحايا ظلم المجتمع الدولي تجاههم لكونهم اختاروا الدفاع عن أنفسهم كما يعتقدون. وستتوجه الأنظار إلى إيران لمعرفة ردة فعلها و ما ستقوم به من هجمات انتقامية ليس أقلها غلق مضيق هرمز الممر الحيوي للغرب للتزود بالوقود، وستبادر تشكيلات مسلحة انتحارية شيعية إلى ضرب تجمعات القوات الأمريكية والسفارات في العراق وأفغانستان وفي دول الخليج، وبات معروفاً للدوائر الاستخبارية الغربية أن إيران قد أعدت بالفعل مثل هذه القوات الانتحارية لاسيما في العراق، وستكون الصدمة الاقتصادية عنيفة يتردد صداها في أرجاء العالم كله حتى يمكن أن يصل سعر برميل الخام إلى أكثر من 250 دولار إلى جانب شحته في الأسواق النفطية العالمية التي ستستهلك حتماً احتياطاتها الاستراتيجية. عند ذلك ستضطر الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل المباشر لفك الحصار عن مضيق هرمز وضرب إيران في العمق مما سيثير مشاعر شيعة العالم في كل مكان وستخرج الجماهير الإسلامية غاضبة في شوارع القاهرة والرباط والجزائر وتونس وبغداد ودمشق وبيروت وربما أيضاً في جدة والرياض وأبو ظبي ودبي ومسقط وصنعاء بل في كافة العواصم العربية والإسلامية مما سيشكل خطراً على الأنظمة المعتدلة الموالية لأمريكا أو المتحالفة معها. هذا السيناريو الكارثي ممكن الحدوث إذا لم تتخذ كافة التدابير الاحترازية لمنعه في حال تهورت إسرائيل وضربت بدون اعتبار لموازين القوى القائمة حالياً. ولكن ماذا يعني ذلك؟ هل يعني الانصياع للتعنت الإيراني وترك الإيرانيين يبنون بهدوء وبلا معوقات ترسانتهم النووية، مما سيفتح الباب على مصراعيه أمام سباق تسلح نووي إقليمي ستكون عواقبه وخيمة؟ وما ذا سيكون تأثير ذلك على الشارع الإسرائيلي؟ فكل استطلاعات الرأي في إسرائيل تشير إلى احتمال حصول هجرة مضادة من إسرائيل على نطاق واسع قد تطول نصف المجتمع الإسرائيلي خوفاً من إبادة محتملة حيث سيهرب كل من يستطيع الخروج من إسرائيل قبل فوات الأوان، حتى لا تتكرر مأساتهم التي حدثت مع هتلر. ولا توجد ضمانات في نجاح إسرائيل بإقناع شعبها أن إيران ليست غبية أو إنتحارية يمكن أن تغامر بوجودها إذا ما قررت ضرب إسرائيل بالسلاح النووي البدائي الذي ستصنعه لأنها لن تتمكن مطلقاً من الوصول إلى مستوى الترسانة النووية الإسرائيلية وتطورها التكنولوجي الهائل، وإن بإمكان إسرائيل محو إيران من الخارطة خلال بضعة ساعات ولكن هل تستطيع إسرائيل امتصاص الضربة النووية الأولى عليها؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يتعين على إسرائيل الإجابة عليه، وعلى إيران أن تفكر ملياً قبل المضي في برنامجها إلى غايته العسكرية.

[email protected]