حالة غريبة و شاذة تلك التي يعيشها العراق من خلال نخبه السياسية التعبانة و التائهة في بحار البحث عن الغنائم و الأسلاب وفتات الموائد السلطوية، فالصراع الساخن بين الرفيقين المتضادة قلوبهم و نفوسهم نوري المالكي و إياد علاوي قد وصل للذروة بعد عدم رغبة كل طرف بلقاء الطرف الآخر بأي شكل ولو كان بروتوكولي محض، فالمالكي يبدو أنه مصر على التشبث بكرسي الوزارة الأولى حتى يرث الله الأرض و من عليها أو لربما حتى يسلمها لعيسى بن مريم ( ع ) في يوم الحشر!

وهو خطاب سلطوي عميق و متأصل في الثقافة السلطوية في العراق تعود جذوره لأحد ولاة الأمويين وهو سعيد بن العاص حينما قال قولته الشهيرة ( السواد بستان قريش )!! وهي المقولة التي ترتبت عليها أشياء و أحداث!، و كذلك تكرر نفس المشهد مع العباسيين حينما أنهوا سلطة الأمويين ليعلن أحد قادتهم وهو داود بن علي العباسي عم السفاح و المنصور بأن ( بنو العباس لن يسلموا الخلافة إلا للمسيح عيسى بن مريم )!!

وهو الأمر الذي فعله ( هولاكو) بعد خمسة قرون من ذلك التعهد العباسي بالخلود!، وفي التاريخ المعاصر يبرز نظام صدام حسين البائد كرمز بارز في التمسك بالسلطة ولو على الخرائب و الجثث وهو ما حصل فعلا لتصل للسلطة المتعبة في العراق اليوم بفضل الحذاء الأمريكي الثقيل الذي فرض منطقه ورؤاه على مسارات و ملفات الأحداث في الشرق الأوسط لتأتي لبوابات السلطة في العراق مجموعة من الأحزاب التافهة و الزعامات المريضة و المهزومة التي كانت قابعة في سراديب الهزيمة و الفشل لتجد نفسها على حين غرة في قمة عرش العراق الضائع بين تاريخه المتوتر وحاضره المزري وحجم التخلف المريع الذي يعيشه شعبه في أوائل القرن الحادي و العشرين و الغريب بل العجيب أن نزعات التقدم في بدايات القرن العشرين الماضي وفي بداية التأسيس البريطاني للدولة العراقية الحديثة بعد قرون من السيطرة الأجنبية و التمزق الوطني كانت أفضل بكثير مما يدور حاليا، وقتذاك كانت غالبية شباب تلك الفترة تتطلع للتقدم و التطور فظهرت التيارات و الأفكار التقدمية المتجاوبة مع روح العصر و تطور الفكر و ألأدب و الشعر و السياسة و كل المجالات وخرجت المرأة العراقية لتمارس دورها التحديثي و الإجتماعي أما اليوم فنلاحظ ظاهرة النكوص و التراجع الحضاري و العودة المريعة للقيم الطائفية و العشائرية المتخلفة و بروز ظاهرة ( التدين الغبي ) وهو تدين سطحي لا يلامس الجذور الإيمانية للشخص أو للمجتمع بقدر ما يلامس نزعات النفاق و التزلف و الرياء و الخديعة بدليل إن المجتمع بدلا من أن يسمو بتلك القيم الدينية المنتحلة فإنه واجه تراجعا مخيفا و سيادة فظيعة لأهل اللصوصية و الحقد و التخريب، وفي خضم الأزمة العراقية الراهنة و المستعصية بسبب فقدان الهوية الايديولوجية الحقيقية للدولة العراقية، فإن كل مظاهر الديمقراطية الإعلامية من إنتخابات و أحزاب و توجهات قد تم التجاوز عليها و إلغائها بعد أن نجح العراقيون فعلا في تحويل الديمقراطية و آلياتها لمهزلة حقيقية تؤكد الطروحات الفكرية للعقيد الجماهيري الأخضر و القائلة بأن ( الديمقراطية تدجيل )!! وهو ما تلخصه الحالة العراقية الراهنة بالفعل!

وكانت آخر صرعات قائمة العراقية العلاوية العلمانية و الليبرالية و الباحثة عن سلوك طريق عراقي سياسي جديد هو التماشي و التماهي مع التجمعات السياسية و الطائفية الأخرى و التمسح بعباءة ( المرجعية الدينية الشيعية ) في النجف و التباحث معها و معرفة رأيها مما يجري!! وهو مادرج عليه أهل و جماعة المجلس الإيراني الأعلى و حزب الدعوة و بقية فرق حسب الله الطائفية لتأتي قائمة العراقية الليبرالية و تكمل العرس الفاضي و تذهب للقاء السيد علي السيستاني و الذي لا أدري بالضبط ماهو موقعه في الدستور العراقي الذي صاغه وخططه و رسم ملامحه النهائية المندوب السامي الأمريكي الأسبق بول برايمر )!، فهل السيستاني ( ولي العراق الفقيه )!!؟...

مع الإحترام الكامل لمرجعيته الدينية و الفقهية التي لا علاقة لها أصلا بأمور السياسة و تشكيل الحكومات لأنه من المفترض أن يكون الشعب قد قال رأيه في صناديق الإنتخاب؟ فلماذا اللجوء للسيستاني؟ كان يمكن الإستغناء عن الإنتخابات و عن صرف ملايين الدولارات و لربما المليارات على الحملات الإنتخابية ليتم الإكتفاء برأي السيد السيستاني الذي يمكنه أن يرشح من يراه مناسبا لحكم العراق طالما أن جميع الفرقاء متفقين على عدالته وعلى ضرورة تدخله في موضوع الحكم و السلطة؟ و العجيب أن فرقاء السياسة في العراق وهم يهرولون و يتناطحون للفوز بلقاء السيستاني فإنهم يتغاضون تماما عن إمكانية عقد لقاء القمة المنتظر و الصعب التحقيق بين المالكي و علاوي في ( دربونة السيستاني )؟ فلماذا الذهاب فرادى و الحديث مع السيستاني خارج إطار الإعلام المرئي او المسموع؟ ثم ليصرحوا بعد المقابلة بوجهات نظرهم حول ذلك اللقاء؟ و الغرابة كل الغرابة في التجربة السياسية العراقية الراهنة هو وضعيتها التائهة و الغريبة و تميزها بأمر نادر لم يحدث في أي دولة في العالم، فالمرجع الديني و السياسي في إيران مثلا هو مرجع إيراني الأصل و الهوية و القومية و الجنسية لا بل أن الدستور ( الإسلامي ) الإيراني ينص على أن يكون الرئيس الإيراني إيرانيا بالولادة و من أب و أم إيراني لذلك كان رفض ترشيح السيد جلال الدين الفارسي في بداية الإنتخابات الرئاسية الإيرانية عام 1980 لأن والدته كانت أفغانية!!! تصوروا.. وتم ترشيح و إنتخاب الدكتور أبو الحسن بني صدر بدلا منه!! و الذي هرب فيما بعد من جنة الولي الفقيه و لا يزال هاربا في باريس حتى اليوم وهو يلعن ذلك اليوم الأسود الذي أضحى فيه أول رئيس لجمهورية إيران الإسلامية ثم أضطر للهرب بعد أن حلق شواربه الثقيلة بمعية مسعود رجوي زعيم مجاهدين خلق عام 1981.

وجه الغرابة في العراق هو أن من يطلب السياسيون العراقيون بركاته و رأيه و توجيهاته لتشكيل الحكومة هو شخصية دينية وفقهية لا تحمل الجنسية العراقية! بل أن أحدا لم يسنع صوته علانية وهو واحد من مجموعة من المراجع الدينية التقليدية المقيمة في النجف و لكنه يمتلك سلطة ملكية في مباركة أو إحباط أي تطلع لأي سياسي كان وهي حالة غريبة وغير مسبوقة في أي تجربة سياسية معاصرة في العالم، فالسيستاني هو ولي العراق الفقيه الفعلي و يمارس فعليا سلطته الولائية بموافقة و قبول تام من جميع القوى السياسية العراقية الفاشلة و التي فشلت في إيجاد أي حلول توافقيه لتورط المرجعية الدينية الفقهية في صراعاتها.. ومع ذلك تظل الظاهرة السيستانية واحدة من أغرب و أعجب الظواهر في عراق الفشل و التدهور و الضياع.... فهل ستحل الزيارات المارثونية لمقر السيد السيستاني معضلات العراق التاريخية؟.. أم أنها ستفتح الباب لإحتمالات كارثية قادمة؟... الجواب الحتمي يتقرر من معرفة حقيقة إن العراق دولة فاشلة، و إن نخبه السياسية تستحق أرقى الجوائز الدولية في الفشل، وبلد بهذه المواصفات لا يمكن إلا أن يكون ذو نهايات كارثية.. تلك هي المسألة.

[email protected]