لابد أن أذكر أن السلفية أقرب التيارات الدينية إلى عقلي وقلبي، وذلك لسبب بسيط ألا وهو أن السلفية كانت وما زالت كعقيدة وكشعائر تعبدية quot;وقفيةquot;،لم يدخلها التجديد كعقيدة، ولم تتوسع كشعائر، وهذا ما جعلها أنقى التيارات الدينية على مر العصور.

وجل النقد الموجه للسلفية المعاصرة هو حول تقديم حلول فاعلة للقضايا المعاصرة، وحول هذه القضية فإن السلفيين لا يبذلون جهدا مضنيا في البحث عن حلول؛ وإنما يكتفون بذكر حدث مشابه قد حصل لأحد السلف الصالح ويشيرون إلى أهمية التعاطي مع القضية وفق ما فعل هذا السلف، دون إشارة إلى الظروف المحيطة بذلك السلفي آنذاك، أو بالأدق يتضح أن هناك غموض تام بتفاصيل الظروف المحيطة بتلك القضية التي مر عليها مئات السنين، ولكن هناك رغبة ملحة في صب تلك التجربة على قالب القضية الراهنة فحسب.

لاشك أن تعاطي السلف الصالح مع قضاياهم يشكل quot;دستوراquot; لنا كأمة تعتز برموزها وأعلامها،ولكن انتقال الأمة عبر العصور يزيد طرديا حملها من القضايا الشائكة والتجارب المستجدة، فمثلا الأحداث التي حدثت في عهد الخلفاء الراشدين لم يحدث لها مثيل في عصر النبوة، وكذلك ما حصل في عهد بني أمية لم يحدث في عهد الخلفاء وهكذا، فمهما تشابهت القضايا إلا إن الظروف المحيطة لم تكن كما هي.

حقيقة الأمر إن السلفية النقية - بعيدا عن الجماعات المسلحة المنبثقة منها التي تلطخت بدماء الأبرياء - تمتلك أدبيات سياسية تعتبر غاية في الوضوح وغاية في العدالة؛ فبمجرد سماعك لمصطلحات السلفية السياسية ستشعر بعظمة هذا النضج السياسي: البيعة، الحاكم الصالح، الشورى، أهل الحل والعقد...

لكن المتابع لسيرة الأمة يجد أن هذه المصطلحات السلفية لم تصمد على أرض الواقع لأكثر من ثلاثين سنة فقط، ويتسائل المتمعن - لاسيما من الداخل المسلم - عن جدوى هذه الآلية السلفية لحكم الأمة هل آتت أكلها أم إنها لم تفعل، ولعل الكثير من الداخل المسلم وجد في العلمانية والتجارب الغربية جوابا تطبيقيا سهلا يعتقد أن السلفية عجزت قرونا عن الإجابة عليه، في حين أن السلفية باتت صامتة بوجه تلك التساؤلات، واكتفت في الإشادة بتجربة الخلافة الراشدة فحسب، وعجزت عن توفير أدوات عصرية تحقق تلك الأدبيات السياسية، ولعل النظرة السلفية في فصل الدين عن الدولة مازالت تشكل استفهاما مثيرا ربما؛ إذ إنه كيف يتوافق الإحجام عن تطبيق تلك الأدبيات مع الدعوة لتكفير من يفصل الدين عن الدولة،(بمعنى أدق: السلفية تكفر من يفصل الدين عن الدولة تكفير وصفيا لا عينيا وفي الوقت نفسه أحجمت عن رسم رؤية معاصرة للحكم السلفي).

فمثلا الشورى مبدأ إسلامي عظيم لا يحرص السلفيون على تطبيقه أو الدعوة إلى تفعيله بأطر عصرية واضحة، أو بالأحرى الشورى ليست شرطا ملزما على الحاكم، كذلك ينسحب الأمر نفسه على مجلس الحل والعقد، ونصح الحاكم، وشروط البيعة وغيرها الكثير.

وحتى أجيب على التساؤلات الموجهة للسلفية حول المانع الذي يحول دون الدعوة الجازمة لتطبيق تلك الأدبيات في هذا العصر لابد من البحث عن الدوافع المعنوية التي أدت إلى هذا الإحجام،فباعتقادي أن موروث السلفية السياسي والفقهي يحمل الكثير من الموانع المعنوية التي ربما تجعل السلفيين في حرج من تطبيقه، فمثلا مقولة quot;الحكم الجائر مئة سنة أفضل من يوم واحد دون حكمquot; هي شعار السلفية الدائم، وقاعدةquot;درء المفاسد مقدم على جلب المصالحquot; الفقهية جيرت في كثير من القضايا السياسية وأسرف في استخدامها حتى أصبحت حائلا دون أي مشروع إصلاح سياسي؛ فالعالم السلفي يعتقد أن ما يصاحب الإصلاح من مفاسد يعتبر مانعا شرعيا يتعذر مع الإقدام على تحقيقه، فالفوضى والفراغ السياسي وهيبة الدولة والتأليب على الحاكم من أبر ما يمنع السلفيين من محاولة فرض أجندتهم السياسية على السياسي القائم،وهذه المعوقات يدرك السياسي أنها نقطة ضعف السلفية، و تعتبر عصا غليظة بيد الحاكم الجائر يلوح بها أمام السلفيين.

وحول خيارات السلفية المتاحة أمام هذه المعطيات لا نجد هناك إلا خيار quot;الدعاءquot;، وهو الخيار الناجع في نظر السلفية لإزالة الوضع الراهن، فالسلفيون لا يملكون سوى الدعاء بإزالة الحاكم الجائر وقدوم حاكم عادل، وحول مرشح السلفية المفضل نجد أن quot;المستبد العادلquot; خير مرشح للسلفية،إذ ينعم هو بالدعاء له بطول البقاء وبصلاح البطانة، و تنعم السلفية نعيما مؤقتا لا يلبث طويلا إذا ما خلفه مستبدا جائرا، وهنا تعود السلفية إلى صف المعارضة وتبدأ الدعاء من جديد!

وفي هذه المرحلة يبدأ بعض السلفيين بتحركات غير سوية كإلقاء اللائمة على العامة بحجة أن فسادهم سبب زوال الحاكم الجائر، وهنا يبدع بعض السلفيين في تقريع العامة وتحميلهم وزر الوضع القائم، ويعتبر الحديث الضعيف quot;كما تكونوا يولى عليكمquot; شعارا مناسبا للتقريع الجماعي(بالمناسبة هذا الحديث الذي ظل صحيحا في ذهن المسلمين قرونا إنما هو ضعيف: انظر quot; كشف الخفاءquot; (2/1997) quot;الفوائد المجموعةquot; (624). quot;تذكرة الموضوعاتquot; (182) ).

حتى في علاقة السلفية مع quot; المستبد العادل quot; نجد أنها لا تتسم بالفاعلية، فالسلفي إزاء المستبد العادل إما زاهدا لا يلقي له بالا وهم قلة، أو مادحا داعيا مباركا لكل خطوة يخطوها القائم بأمر الله.

و حول تلك العلاقة فإن السلفية تفتقر إلى الانتهازية السياسية فهي لا تحرص المطالبة بإصلاحات سياسية مستقبلية، أو عمل ضغوطات معنوية للحصول على مكاسب سياسية أكبر تتوافق وأدبياتها؛ بل على العكس فربما ناصبوا أصحاب الدعوات الإصلاحية العداء مجاملة للمستبد العادل!.

وفي هذا العصر نجد من أبناء السلفية من يحاول رسم رؤية سياسية إصلاحية، أو نقد الواقع السلفي المعاصر وطريقة تعاطيه مع القضايا السياسية، أو المطالبة بإيجاد مشروع بديل عوضا عن الاكتفاء بتحريم تجارب الأمم المتقدمة، نجد إنه إما يقابل بالتجاهل أو الوصم بالرغبة بالحياة الدنيا، وكأن الدنيا هي السياسة فحسب، بالرغم من أن جل علماء الأمة السلفيين و طلبة العلم المعاصرين هم أكثر طبقات الأمة غنا، فتجد طالب العلم السلفي مثلا يعمل بالتجارة، والعقار، ويمتلك السيارات الفارهة، ويتردد على قصور الإقطاعيين وإذا ما سمع بأن أحد السلفيين ينادي برؤية سياسية إصلاحية جديدة هب قائلا: ذروا هذه الدنيا الملعونة لأصحابها؛ إنما هي متاع الغرور!

المثير للدهشة والذي يعد تناقضا صريحا هو أن السلفية المعاصرة لا تجد حرجا في قبول الفرمانات المتعارضة للأحكام الإسلامية - ولو على مضض - الصادرة من قبل الحاكم الشمولي بينما تعارض معارضة مستميتة القبول بمبدأ فصل السلطات و تفعيل المؤسسات المدنية وتعتبره علمانية صريحة تؤدي إلى الكفر البواح! وهنا يرى الجميع عظم استفادة أنظمة الحكم الشمولي من الرؤية السياسية لدى السلفية المعاصرة.

وإذا كانت السلفية تتوجس خيفة مما هو جديد وبحجة المحافظة على تراث الأمة النقي يجدر بي ذكر حادثة قد استجدت في عصر صدر الإسلام تدل على ضرورة التعاطي ومتطلبات الأمة الراهنة، ألا وهي quot; تدوين الحديث النبويquot; فقد كان هناك نص نبوي يفيد بعدم كتابة شيء مع الوحي، لكن السلف بفهمهم الراسخ أدركوا أن ذلك كان أمر مؤقتا حتى وإن لم يشر عليه الصلاة والسلام لذلك، فلو كان الفهم عقيما لمنع تدوين السنة بحجة النص النبوي الصريح!.

الخلاصة أن السلفية المعاصرة باكتفائها بتعليق مصير الأمة بالدعاء للحاكم الصالح والمستبد العادل وتجاهل المؤسسات المدنية،وتفعيل مبدأ الشورى، ومبدأ فصل السلطات، واستقلالية القضاء، والمطالبة بسن قوانين الشفافية، والمراقبة، والمسائلة، والمحاسبة، وتوزيع الثروات، بدت وكأنها تقدم دليل على إدانتها،وكأنها أصبحت أداة لتكريس الأنظمة الشمولية، وأخشى أن يأتي يوما ما ويقول المسلمون أجمع بأن السلفيين المعاصرين كانوا سببا في تخلف هذه الأمة.

كاتب ومدون سعودي

[email protected]