من الأخطاء التاريخية التي ارتكبتها القوى الأستعمارية المهيمنة على العالم الأسلامي والشرق الأوسط على وجه الخصوص بُعَيد سقوط الخلافة العثمانية، أنها عمدت الى تقطيع أوصال تلك الخلافة الى دويلات صغيرة قائمة على أساس كمي(عشوائي) وليس على اساس نوعي(انتقائي)، أي أنها أقامت دولاً من مجتمعات وشعوب غيرمتجانسة لاثقافيا ولاحضاريا، فسيفساء متنوعة من اديان ومذاهب و ملل جمعت على غير هدى في رقع جغرافية عادة ماتوصف بالساخنة او غير المستقرة..
ربما لم تكن أخطاء بقدر ما كانت سياسة خبيثة مدبرة ومحبوكة من أجل إحداث صراعات داخليةدائمة ؛ دينية محتدمة كالسودان بين الشمال (المسلم) والجنوب(المسيحي) أو عرقية طائفية كالعراق وتركيا وإيران، وكمابين البربروالمغرب، من أجل تسهيل السيطرة على كل بلد من هذه البلدان ومن ثم إخضاعه لأرادتها، وقد دلت الشواهد من التاريخ السياسي المعاصر أن التعايش بين مكونات تلك الدول المصطنعة غير المتجانسة أصبح مستحيلاً بفضل الاصرار المتواصل على تجاهل حقوق الانسان و غياب العدالة وشيوع القمع فيها على نطاق واسع، وكان من الطبيعي في ظل هذا الجو القاتم المليء بالتوتر ان تتسع الهوة بين quot;الاخوةquot; الاعداء يوما بعد يوم و تبرز الى السطح نزاعات عديدة ثقافية واجتماعية وعسكرية وسياسية عميقة ادت الى انهاك القوى وتعطيل حركة التطور في البلاد.
في ظل هذا التفكك الحاد في النسيج الاجتماعي لم يعد للمنادين بشعار الاخوة بكافة انواعها ( الاخوة في الدين او الوطن او الجنس أو القومية) أي قيمة تذكر على ارض الواقع، ولم يعد ينطلي على أحد، فلا يمكن للشعوب المتعايشة بقوة السلاح وتحت وطأة الشعور بالظلم وعدم المساواة أن يكونوا أخوة على ارض الواقع أبدا، ومن يدعي ذلك، فهو إما كذاب كبير لايعرف حقائق التاريخ الدموي بين هذه الشعوب أو الطوائف أو الاجناسquot;المتعايشةquot; وإما هو سياسي منافق يريد الحصول على مكاسب سياسية من وراء ترديده لهذه الشعارات الجوفاء..
ربما قد تحدث علاقة الاخوة بينهم يوما، ولكن في حالة واحدة فقط؛ وهو ان يكونوا متكافئين على قدم المساواة، يملك كل واحد منهم ارادته الحرة والمستقلة لعقد مثل هكذا اتفاقيات مصيرية دون ممارسة ضغط او اكراه من طرف تجاه طرف اخر، اما بخلاف ذلك، فلن تتعدى العلاقة بينهم عن كونها علاقة الأسياد بالعبيد اوالخدم بالمخدومين..
فيما مضى لم تكن الحكومات الاسلامية بحاجة الى ترديد تلك الشعارات لتخضع البلاد التي كانت تقع ضمن نفوذها، لكونها كانت تطبق مضمون هذه الشعارات على ارض الواقع وبشكل عملي، دون الحاجة الى الاعلان عنها، فلافرق بين العربي او الاعجمي الابالعمل المجدي الذي ينفع الناس، فالكردي او البربري او الارمني مثل العربي هم مواطنون من نفس الدرجة وعلى مستوى واحد، متساوون في الحقوق والواجبات، لافرق بينهم، و كما كانت الفرصة متاحة لخالد بن الوليد او شرحبيل بن حسنة او لغيرهم من قادة العرب ان يبرزوا كقادة عسكريين كبار، ويساهموا في البناء الحضاري، كان الطريق سالكا ايضا لقادة اخرين من غير العرب ليصلوا الى المجد مثل طارق بن زياد من البربر و صلاح الدين الايوبي من الكرد و الظاهر بيبرس من الشركس و محمد الفاتح من الترك ويتبوء اطباء وخبراء اقتصاديون وفلاسفة عظام من اليهود والنصارى مناصب عليا في الدولة بجهدهم وعلمهم وعملهم النافع للامة بغض النظر عن دينهم وقوميتهم، يعني ان الدولة الاسلامية في بعض فتراتها وصلت الى درجة من الرقي الحضاري لم تكن تحسب لغير الكفاءة معيارا لقيمة الانسان، كما هو الحال الان في المجتمعات الغربية.
وكما كانت تستمد الدول المتقدمة قوتها وديناميكيتها من الصراع بين الكفاءات العلمية و الثقافية الحضارية، تأخذ الدولة القوميةمقومات وجودها من الصراع الدائر بين القوميات والأعراق الموجودة فيها كالعراق وسوريا، كما وتظل دائما بحاجة الى عدو خارجي لتبرر وتغذي وجودها، سواء كان هذا العدو اسرائيل ام ايران ام غيرهما، وهذا العدو المزعوم ضروري جدا لبقائها على قيد الحياة، حتى ولو كان هذا العدو مختلقا ومن نسج الخيال!
وهذه الحقيقة تثير سؤالا غاية في الاهمية اظن انه بقي لحد الان بدون جواب وهو؛ لماذا كانت الانظمة العربية ذات النهج القومي ترفض أي مبادرة سياسية للمصالحة الدائمة مع اطراف الصراع وتعمد الى تصعيد الأزمة و جر المنطقة الى اتون حروب استنزافية طويلة دون أي مبرر؟!!
تخيل كيف يكون عليه الشكل السياسي لمنطقة الشرق الاوسط لو خطت تلك الانظمة التي اصرت على ثوابت صارمة خطوات عملية باتجاه السلام وابدت بعض المرونة السياسية و ابتعدت عن الشعارات والمزايدات quot;الوطنية quot; الجوفاء، حتما لتجنبت الكثير من الويلات والمشاكل و تنعمت بسلام وامن دائمين.
ماذا لو وافقت على مشروع تقسيم فلسطين عام 1948؟ وتعاونت مع الامم الامم المتحدة في هذا المجال، فهل كانت المنطقة تتكبد خسائر فادحة جراء اندلاع حربين ضروسين 1967و1973؟.
وهل كانت عمليات الانفال السيئة الصيت التي راح ضحيتها الالاف المؤلفة من الابرياء والقصف الكيمياوي في حلبجة يحدث لو اقدم اقطاب الدولة القومية في العراق على تطبيق بيان اذار للحكم الذاتي في العراق عام 1970؟
من غير الممكن ان يسود العدل و المساواة في الدولة القومية مهما ادعت ذلك، و مهما تفننت في اسباب القوة فانها معرضة اكثر من غيرها الى التفكك والانحلال و والتشظي، وما تفرق وتشرذم بفعل العنصرية والتعالي العرقي البغيض لايمكن ان يجمع ويوحد بنشيد الوطنية و الاخوة quot;الكاذبةquot;.
التعليقات