هذه المشاعر المتشائمة هي مقطع مستلّ من مذكراتي عن زيارتي الأخيرة الى العراق. أمنية كبرى لي أن أشاهد أو أسمع في قابل الأيام من أخبار العراق والعراقيين ما يطيح بهذا التشاؤم ويعيد إلي الأمل بولادة جديدة لأرض الرافدين. *** في هذه الزيارة كنت أفتش عن العراقي الذي عرفت، والذي عرفه آخرون أيضاً وسحروا بابداعه وحكمته وشهامته. بصراحة، لم أعثر عليه. هل أنت موجود في أماكن منسية لم أمر بها في زيارتي الخاطفة (أسبوعاً واحداً)؟ أم أن شظايا التفجيرات ورصاص الجنون وسكاكين الحقد ومجاهيل المنافي قد أنهت وجودك؟ إنني أرتجف رعباً من هذه الفكرة، فأن تموت يا ابن سومر يعني أن أموت أنا، وأن نموت جميعاً. بعد كل المصائب التي حلت بالعراقي منذ 2003 الى اليوم، لم يعد له وجود. لقد مات كل ما أحببناه فيه، فمات. لا ألوم عراقياً على ذلك. ألوم فقط المنحرف المعتوه جورج دبليو بوش. يقول ان رسالته هي تحرير الشعوب؛ ما أراه هو ان رسالته كانت تسقيط الأفراد والشعوب معاً. ما وصفه الأصدقاء لي عن طبيعة سير الأمور هنا لا ينطبق عليه وصف السقوط بدقة، وحاولت دون جدوى العثور على وصف أكثر دقة. هناك توصيفات مقاربة، مثل: تطبيع السقوط (أي تبنّيه والعيش بصحبته كحالة دائمة)؛ أو quot;الفوضى الخلاقةquot; (أسلوب في الممارسة الاحتلالية نصح به الاسرائيليون سلطة الاحتلال الأمريكية في الأيام الأولى لاحتلال العراق) لكن ليس في المجال العسكري وإنما الاجتماعي حيث يصبح تدمير القيم القديمة شرطاً لخلق وسط أخلاقي جديد يمكن أن يؤسس quot;عراقاً جديداًquot; لا علاقة له بما نعرفه نحن العراقيين عن انفسنا. الفوضى هنا هي فوضى المبادئ! ثمة كلمة تتكرر هنا عشرات المرات يوميا في البرلمان والاعلام وكل مكان: التوافق! الحكومة والقضاء والاعلام والادارة والمال والمجتمع والقيم والاخلاق و.. و.. كلها تجري بالتوافق! كل شيء يمكن أن يكون عقابه الموت ويمكن أن يكون مقبولاً، وفقا لعلاقته بالتوافق مع الآخرين. منتهى التطرف يتعايش مع منتهى التطرف المقابل بصفقة توافقية! كل شيء صلب عند الحاجة وهش عند الحاجة. أضف الى ذلك حالة جديدة انتشرت مع موجة النهب الشاملة وخلال ثقافة التعامل مع المحتلين، فحواها المنفعة الأنانية المباشرة الفجة، بمعنى انتفاء وجود أي مبدأ أو قيمة شخصية يمكن أن تحول بين الشخص وبين تحقيق رغباته المادية أو الجسدية أو العاطفية. وفي ظل الموت بالصدفة، وتدمير الأُسَر بين التهجير والقتل، اختفت قيمة الحياة نفسها، لتختفي معها أي قيمة لأي شيء. أريد أن يطلع العراقي يوماً ويصرخ في وجهي: أنت مخطئ، فأنا حي وسأبقى. سأنتظر ذلك اليوم طول حياتي.
- آخر تحديث :
التعليقات