استقالة الرئيس الالماني quot; هورست كولرquot; تضع المانيا في عين الاعصار، فاليسار المتنفذ الذي تماسك بحصول quot; غيدو فيستر فلهquot; على حقيبة وزارة الخارجية بلغ أوج قوته في هذه المرحلة وتمكن بقليل من النقد وكثير من النشاط الاعلامي أن يحمل quot;كولرquot; على الاستقالة ndash; في سابقة هي الاولى من نوعها في هذا البلد-ولسبب وحيد لا غيره هو quot; المشاركة العسكرية الالمانية في افغانستانquot;، وعلى اليمين في هذه الحالة ان يستجيب بقدر من القوة يحفظ له ما تبقى من حضوره القلق في الساحة.
وفيما كان الالمان يحتفلون بعودة نجمة البوب المراهقةquot; لينا ماير-لاندروتquot; من مسابقة اليورو فيشن وقد حصلت على الجائزة الاولى، كان المشهد السياسي يشهد لحظة تاريخية تشبه توقف الزمن في البلد حين تلا رئيس الجمهورية كلمة استقالته التي عزا سببها الى قلة احترام ادارته له!
وقد وصف quot;رونالد نيلزquot; مدير مكتب quot;دير شبيغلquot; في برلين ما حدث بأنه ( لحظة سوريالية في تأريخ المانيا، حبست فيها كل الأمة انفاسها). حتى هذه النقطة يمكن قراءة ما حدث على أنه جزء من الحراك السياسي في مشهد يحرص الاعلام الالماني الذي يقوده اليسار بشكل شبه مطلق على أن يجيّره لصالحه من خلال الخوض في تحليل ما حدث والعودة الى تفاصيل - هي في الغالب - من وحي طموحات اليسار نفسه، لكن هذه القراءة قد لا تستمر اذا استمر التداعي.
ألمانيا تخجل من تأريخها
وشكلت الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها من انهيار شامل للبلد عقدة خجل تؤرق الاجيال الجديدة وتمحو كرامتها الوطنية، هذه العقدة يتكئ علييها اليسار الالماني المعارض للمشاركة العسكرية في افغانستان.
ويبدو أن افغانستان وضعت العقدة في المنشار، فحين فاجأ رئيس الجمهورية الجميع بزيارته للقطعات الالمانية العاملة في افغانستان والتي وصفها بانها جاءتquot; لكي لا يشعر الجنود الالمان الذين يبذلون دماءهم في سبيل اهداف يؤمن بها بلدهم بأنهم تركوا لوحدهم في خنادق القتالquot;، جاء رد الفعل مبالغا فيه من الاعلام الألماني الذي قرر أن يتجاهل الزيارة تماما - بل أن رئيس التحرير في إحدى كبريات المحطات الألمانية رفض أن يضم الى برنامجه تقريرا عن الزيارة واصفا اياها بالقولquot;إنه يزور جنوده وهذا شأنه ولا يعني جمهورناquot;، وهو أمر قد لا يسر الجيش الالماني الذي يجهل ما يدور في كواليس الاعلام.
وأعتبر الرئيس المستقيل أن منتقديه قد تمادوا واجتازوا حدود اللياقة والاحترام - وهو رأي يعتبره الساسة هنا خروجا عن العرف الديمقراطي حيث يباح للجميع انتقاد أعلى مستويات السلطة في البلد ووضع ادائها تحت مجهر الشفافية، من هنا يعزون الاستقالة الى أسباب تتعلق بضعف اداء الرئيسquot; كولر quot; لاسيما وأن دور الرئيس في النظام الفدرالي في هذا البلد هو دور بروتوكولي وما يتبقى له خارج إطار الرمزية هو أن يكون بوصلة تعين الاتجاه من خلال تساميه فوق الخلافات السياسية وهو ما فشل فيه quot;كولرquot; طبقا لما يذهب اليه منتقدوه.
وربما كان أشد ما آلم الرئيس المستقيل هو تخلي الساسة عنه وفي طليعتهم المستشارة quot;ميركلquot; التي كان ينتظر منها أن تدعم موقفه الا أنها لم تفعل قط رغم انها قد اعلنت في رد فعل مباشر بعد اعلان الاستقالة انها قد سعت الى ثنيه عن عزمه الا انها لم تفلح ولذا باتت تشعر بالاسف الشديد لقرار الاستقالة واصفة الرئيس المستقيل بquot; أنه كان مشاورا مهما في الاقتصاد وخلال الازمات المالية بفعل خبراته الكبيرة في هذا المجالquot; وهذا القول بحد ذاته يحمل تعريضا خفيا بادائه بمستوى العلاقات الدولية والخارجية.
خطر في لحظات الضعف
في لحظة ضعف مشابهة للحظة الراهنة ترنحت جمهورية فايمر التي حكمت المانيا بين عام 1919 وبين عام 1933 لتسقط في قبضة الحزب النازي وزعيمه الديكتاتوري quot; ادولف هتلرquot;، وكان من بين أهم أسباب سقوط تلك الجمهورية المهلهلة الأزمة الاقتصادية الخانقة.
وتعيش المانيا اليوم تفاصيل أزمة اقتصادية كبرى، فدافعو الضرائب متذمرون من سياسات الحكومة التي تقودها quot;ميركلquot; والتي قررت لشدة يأسها نبذ سياسة الاصلاح التي أعلنت عنها في مطلع برنامجها الانتخابي الاول. تتواصل الازمة بدءا من مليارات اليورو التي بُذلت لدعم المصارف التي تأثرت بأزمة العقارات في الولايات المتحدة، ومرورا بمليارات اليورو التي بُذلت لدعم صناعة السيارات التي اخذت تترنح وتهدد بتقليص انتاجها الامرالذي كان سيدفع بمئات الالوف من العاملين فيها الى ارصفة البطالة، ولم يكد البلد يفيق من هول الصدمتين حتى حلت أزمة الديون في اليونان، ولكي تدافع اوروبا عن وحدتها الهشة سعت أكبر اقتصادياتها ( المانيا وفرنسا وهولندا) الى دعم الشريك الضعيف في اثينا، وترددت المستشارة quot;ميركلquot; كثيرا قبل أن توافق على حزمة المساعدات تحت ضغط مشروع الوحدة الذي دافعت عنه كثيرا، وجاءت موافقتها في النهاية لتسكت الاصوات المنتقدة لادائها الضعيف والمتردد- حسب وصف بعض الصحف. وتوجت الأزمات المتوالية بأزمة دول منطقة اليورو حيث يتعين على ألمانيا أن تشارك باكثر من 150 مليار يورو لدعم مشروع الوحدة الاوروبية الذي لم يعد الالمان يرون فيه الا مضخة تشفط أموال بلدهم الثري لتدفع بها الى دول فقيرة فاسدة الانظمة لا تدعم حتى سياسات الحكومة الالمانية في الخارج.
هذا الوضع يعيد للاذهان ما حدث مطلع القرن الماضي، فاذا وضعنا المشهد السياسي الى جانب الاقتصاد - الذي لم يبلغ مرحلة الانهيار بعد لأن دافعي الضرائب ما زالوا قادرين على تحمل الزيادات والتذمر ما زال همسا- قد نرى أن مشروع المانيا كزعيمة لاوروبا التي تحاول ان تخرج من فلك السياسة الامريكية لا يزيد عن كونه مشروعا لحفظ ماء الوجه في القارة العتيقة، وهو ظاهر للعيان لمجرد أن الرئيس الامريكي أوباما يرنو الى شركاء آخرين في سعيه المحموم لتسفيه سياسة سلفه الرئيس جورج دبليو بوش.
بون- ربيع 2010
التعليقات