منذ أن وصل حزب البعث الصدامي للسلطة في العراق للمرة الثانية سنة 1968 بانقلابه العسكري الأسود، وهو يناور للخروج من عزلته الدولية التي كان متقوقعاً داخلها، والتي فرضتها عليه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبعض الدول الغربية الأخرى، واعتبرته نظاماً ديكتاتورياً دموياً لا يشجع أحد على التعامل معه بحجة أنه نظام يساري قومي اشتراكي على غرار الحزب النازي، لكنه لأسباب تكتيكية يميل للمعسكر الاشتراكي، بينما هو في الواقع نظام معادي للشيوعية، لذلك كان العراق في حقيقة الأمر يبحث عن حليف من داخل المعسكر الغربي يكون منافساً للحليف التقليدي للعراق آنذاك وهو الاتحاد السوفيتي. وكانت الدولة المرشحة لتلعب هذا الدور هي فرنسا لاعتبارات كثيرة سنأتي على ذكرها لاحقاً. وكنت بحكم إقامتي الطويلة في المنفى الفرنسي لفترة قاربت الأربعة عقود على احتكاك وإطلاع دائم بخفايا الأمور السياسية والدبلوماسية التي دارت على الساحة الفرنسية فيما يتعلق بملف العلاقات الفرنسية العراقية، التي كتبت ونشرت حولها عدد من المقالات. بادر العراق سنة 1974 إلى دعوة رئيس الوزراء الفرنسي في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان Valery Giscard drsquo;Estaing، وهو جاك شيراك jacques Chirac لزيارة العراق، وأعد له برنامجاً حافلاً وفاخراً مع الكثير من الترف والإنفاق والحفاوة المبالغ بها، تكريماً لهذا الضيف الاستثنائي الذي حل على العراق في ذلك الوقت بعد عام من حرب أكتوبر 1973، واندلاع أزمة الطاقة، واستخدام سلاح النفط وتأميمه في العراق سنة 1972، أي قبل عام من تلك الحرب العربية الإسرائيلية التي كانت حرب تحريك أكثر مما هي حرب تحرير، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الذهب الأسود إلى أكثر من خمسة أضعاف سعره العادي في السوق النفطية العالمية، وكلنا يعرف ما هي أهمية هذه الطاقة لاقتصاديات وصناعات ومجتمعات الدول الغربية التي تفتقدها. ثم رد العراق الزيارة بزيارة مماثلة تلبية لدعوة قدمها جاك شيراك لصدام حسين الذي كان ظاهرياً الرجل الثاني في النظام إلا أنه في الحقيقة الحاكم المطلق للعراق والفرنسيون يعرفون ذلك جيداً. وبوصول صدام حسين إلى فرنسا شعر المسئولون الفرنسيون المكلفون باستقباله وخدمته بإحراج كبير لأنه لا يحترم أي تقاليد أو أعراف دبلوماسية أو بروتوكولية، فقد جلب معه جيشاً من الحراس الشخصيين المدججين بالأسلحة، يجولون وسط ممرات وباحات وغرف الفندق، يفتشون كل شيء، وكذلك رافقه فريق من الخدم والحشم والطباخين، ووفداً عرمرم من الملاقين والوزراء الدمى، ونزل في فندق ماريني Marigny مقابل قصر الإيليزيه وحمل معه عدة سمك المسكوف ونصبها وسط حديقة الفندق الفخم وبدأت الروائح تتسرب حتى إلى داخل أروقة القصر الرئاسي الفرنسي حسب ما قالت التقارير السرية في ذلك الوقت، ولكن لم يجرأ أحد على توبيخه أو منعه أو حتى تذكيره بأن ذلك لا يدخل في العرف الدبلوماسي والبروتوكولي السائد. وكان صدام حسين يعتقد بأنه يقوم بمفاجأة سارة لجاك شيراك بجلبه بطائرة خاصة من بغداد وبأمر مباشر منه، طناً ونصف الطن من سمك المسكوف، وأعد وليمته في فندق الضيافة في التاسع من أيلول سنة 1975، أي في اليوم الخامس لزيارته اليتيمة إلى فرنسا. استغرق إعداد وشوي السمك بهذه الكمية الكبيرة إلى ساعات طويلة والمدعوون ينتظرون ويتضورون جوعاً لساعات متأخرة تجاوزت العاشرة ليلاً واحتسى الحاضرون الويسكي ثم تناولوا العشاء بسرعة وانصرفوا كما شهد بذلك الدبلوماسي المتخصص بالشرق الأوسط سيرج بوادفيكس Serge Boidevaix الذي كان مستشاراً دبلوماسياً لرئيس الوزراء الفرنسي في ذلك الوقت جاك شيراك. ورغم تبرم شيراك في السر إلا أنه لم يرغب في إزعاج quot; السيد النائبquot; كما كانوا يسمونه، بعد كل تلك الجهود التي بذلت لترضيته ودعوته للخروج من العراق وزيارة فرنسا، وهو أمر نادر في حياة صدام حسين. ظلت تلك الحقبة القصيرة من العلاقة الشخصية التي ربطته بصدام حسين ملتصقة بجلد وسمعة جاك شيراك، وحاول طيلة حياته السياسية التقليل من أهميتها كلما سنحت له الفرصة لما كانت تثيره شخصية صدام من تقزز ونفور في نفوس القادة والسياسيين الغربيين، فضلاً عن الرأي العام الغربي، فيما بعد، بعد أن انكشفت جرائمه، وغالباً ما كان شيراك يردد أنه لم يكن سوى منفذاً لسياسة عليا فرضتها إدارة الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان Valery Giscard drsquo;Estaing لضرورات المصلحة الوطنية، ويلقي مسؤولية توقيع عقود وصفقات عسكرية وتجارية مع صدام حسين على من خلفه على مقعد رئاسة الوزراء في ماتنيون Matignon مقر رئاسة الحكومة الفرنسية، وخاصة اتفاق التعاون النووي. وبعد مرور ثمانية وعشرون عاماً على ذلك التاريخ أحرجه أحد الصحفيين الأمريكيين وسأله عما شعر به عند إبرامه اتفاق التعاون النووي مع صدام حسين، وهل كان واعياً لخطورة خطوته تلك، وذلك في عز الأزمة العراقية سنة 2003، رد جاك شيراك بعصبية: لماذا الإصرار على هذا الموضوع؟ أنا لم ألتق صدام حسين سوى مرتين في حياتي، الأولى سنة 1974 في العراق، والثانية سنة 1975 في باريس، ولم أره بعد ذلك أبداً quot;. وأضاف: quot; في ذلك الوقت كان الجميع يقيمون علاقات ممتازة بصدام حسين، الجميع بلا تحفظ، ولم يكن ذلك أمراً استثنائياً. وفي الحقيقة أن شيراك التقى بصدام في أربع مناسبات وكان يحيطه بعناية خاصة وبتودد كبير ومبالغ فيه كأنه من أصدقائه الحميمين، وقال له بالحرف الواحد في لحظة هبوطه من الطائرة في مطار باريس في أورلي يوم الجمعة المصادف في الخامس من أيلول 1975:quot; أنت صديقي الشخصي ويسعدني أن أحيطك بكل تقديري واحترامي ومودتي ومحبتي الخاصة. وفي مساء اليوم ذاته اصطحبه في جولة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معه في منطقة المدي Midi وحل في منتجع بو دو بورفانسBaux de Provence ذو الطراز المعماري من القرن السادس عشر وصاحبه هو النائب البرلماني عن المنطقة وصديق شخصي لجاك شيراك وهو ريموند تويلليه Ramond Thuillier وقد وصف صاحب المنتجع الضيفين شيراك وصدام بأنهما quot;كالزوجين الشابينquot;. وبأمر من شيراك تم تجاوز كافة الإجراءات البروتوكولية المتبعة مع الزوار الرسميين كملكة بريطانيا والرئيس الصيني اللذين حلا ضيوفاً في نفس المنتجع الذي افتتحه الرئيس جورج بومبيدو Georges Pompidou سنة 1947. وكان الزعيمان الفرنسي والعراقي يتناولان الفطور على حافة المسبح وحدهما وجهاً لوجه، كالعاشقين، برفقة مترجمهما فقط ولساعات طويلة. وقد نظم ريموند تويلليه Ramond Thuillier على شرف صدام لعبة تقليدية مشهورة في القرية تتلخص بإطلاق ثورين صغيرين هائجين ويتسابق الشباب لتعليق قطعة قماش على قرن الثور دون أن يمسه هذا الأخير وهي لعبة ممتعة وخطرة تتطلب السرعة والحذاقة وكانت جوائز رمزية تقدم للفائزين من جانب أصحاب المحلات التجارية المحيطة بساحة اللعب لا تتجاوز 30 فرنك إلا أن صدام اندمج باللعبة التي أعجبته فقرر هو أيضاً أن يقدم منحته السخية لكن المبلغ كان خيالياً في حسابات ذلك الزمن وهو 50000 خمسون ألف فرنك لكل فائز وقد أعلن ذلك المسؤول عن الفعالية وسط تصفيق المشاركين والجمهور. وبعد مغادرة صدام حسين استدعت السفارة العاملين في المنتجع وسلمت لكل واحد منهم ظرف وفي داخله 500 فرنك وكان عددهم 80 عاملاً، وما زال العاملون في المنتجع وسكان بلدية بو دو بروفانس يحلمون بنقود صدام التي كان يقتطعها من قوت أبناء شعبه ليبذرها كيفما شاء. يتبع

[email protected]