quot;وداعا للنفط، اهلا بالهايدروجينquot; (جنرال موتورز)


الديمقراطية حلم عراقي مشروع، كما هو حلم الكفاية وربما الرفاهية، الا أن التجربة الانسانية تعلمنا بأن لغة العلم والأرقام فقط هي التي ترسم تواريخ الشعوب، وما سواها إنما حديث مجالس وكتب مدارس. فما نراه في العراق يوما أثر يوم، وجيلا بعد جيل، ونظاما تلو النظام ليس بالغريب ولا بالخارج عن المألوف. فالعراق، كما هو حال أي بلد في العالم، هو مجموعة ارقام ومعطيات اقتصادية واجتماعية و سياسية لا يستطيع احد تجاوزها والعبور عليها حتى ينتهي الحلم وتبدأ الصحوة ومن ثم الرؤية، فلم يحدث أن بدأت رحلة الألف ميل بأكثر من خطوة، ولم يسجل التأريخ نجاحا على المدى البعيد لأساطير حرق المراحل التي سادت وتسود العقل السياسي العراقي والعربي منذ عهد ثورات العسكر في الخمسينيات وحتى الساعة.

عندما quot;انفجرquot; المشرق العربي (الخليج والعراق تحديدا) نفطيا في سبعينيات القرن الماضي كانت الاحلام كبيرة، كما هي الأموال المتدفقة من تلك الأرض، وبدا ولوهلة بأن كل شيء ممكن وبأن المال قد يحرق المراحل ويجعل من الصحاري جنانا، وترافق ذلك مع الطوفان الايديولوجي اللاعقلاني بجميع اشكاله اليسارية والقومية والاسلامية، ومضى القرن وجاء آخر، و شابت أجيال وقدمت أخرى، ولا نزال نتحدث عن مشاكل التعليم والصحة والتنمية البشرية ونقص الموارد والاستبداد السياسي والحقوق، فلا الصحاري تحولت جنانا ولا الخطوة الأولى من مسيرة الألف قد بدأت. وبعد عقود من الموت باسم الأمة والشعارات السامية التي لم تطعم جائعا او تكسي عاريا، جاء عصر الموت باسماء أخرى وشعارات أخرى، وتعددت الأسماء وتغيرت الوجوه والموت واحد، ولعل أكثر مصطلح تردد وردد حتى ذبل كان الديمقراطية، تلك المسكينة التي ظلمناها.

وفي الواقع وببساطة، فإن الديمقراطية في دولة الريع (العراق والخليج واقتصاديات النفط نموذجا) وفي الدولة شبه الريعية (بقية العالم العربي) غير قابلة للتنفيذ، فالديمقراطية لا يمكن أن تكون إلا نتيجة طبيعية لعلاقات اقتصادية نفعية متبادلة بين السلطة والمجتمع المنتج أو ما يعبر عنه في لغة السياسة في الغرب بدافع الضرائب، ولعلاقة سياسية تنظم صراع طبقات وفئات ومكونات المجتمع سلميا في إطار مصلحة عامة تؤدي أخيرا إلى سيادة الاعتدال ومبدأ المواطنة كحل وسط أمثل لجميع الإيديولوجيات والمصالح المتضاربة، ولذا فإن دافع الصراع السياسي السلمي في الغرب هو طريقة إنتاج الثروة وتقسيمها، تلك الثروة التي لا مصدر لها سوى الإنتاج والضرائب الناتجة عنها، وهنا تصبح الديمقراطية حاجة لأن دافع الضرائب يحدد مسار السياسة ولا غنى لصانع القرار عن الناخب الذي لا ينتخبه ويجلسه على الكرسي فحسب بل يدفع له مرتبه من واردات ضرائبه عن عمليته الإنتاجية المدرة للدخل الخاص والعام، ولذلك فإن نواب الشعب المنتخبون والصحافة والمجتمع المدني و كل من يمثل دافعي الضرائب لاعبون مهمون في السياسة الوطنية وصانعون لها.

أما في دول الريع التي تعتمد في مواردها على هبات الطبيعة كالبترول وما شابه، فلا حاجة للسلطة فيها لأصوات مواطنيها لأنهم ببساطة لا يمولونها، بل العكس هو الصحيح، فلها السيطرة المطلقة على الثروة واحتكار لكل انواع القوة القسرية (مثل الجيش والشرطة والقضاء) والتصرف بالثروة بما تراه السلطة مناسبا في عملية شراء للولاءات وحفاظ على الكرسي وعلى مصالح الفئة الحاكمة (ايديولوجيا أو فئويا أومناطقيا أو دينيا أومذهبيا )، حيث يكون الصراع بين القوى فيها صراعا على احتكار الثروة على عكس المثال السابق.
وفي مثل هذه الاقتصاديات، فإن الوظيفة العامة المتضخمة دوما تحول القوة العاملة الى كتبة للدولة يعيشون عليها ولا تعيش عليهم، فالمصلحة هنا باتجاه واحد، ولا حاجة للدولة لهم في مواردها التي تحتكرها تماما. ومن هنا فإن قيم العمل واحترام الوقت واحترامها اجتماعيا لا تسود في هذا النوع من الدول عكس النموذج الأول، فسيان إن عملت أم لم تعمل ما دامت الأم الحاضنة تدفع لك مرتبك، وسيان إن صوتت لها أم لم تصوت، فإنك لا تدفع لها قرشا يبرر تغييرها، ولذا يحمي الشرطي النظام الحاكم لا المجتمع، لأن المجتمع ببساطة لا يدفع له مرتبه وهكذا. وفي مثل هذه الدول، يمنح النظام ما يشاء من المظاهر الديمقراطية مثل التعددية وهامش من حرية الصحافة وانتخابات ومنظمات مجتمع مدني وغير ذلك ويسحبها متى شاء بدون خسائر تذكر، ولذلك فإن البرلمان والصحافة والمجتمع المدني ديكورات يمكن رفعها عن المسرح عند الحاجة.
إن الديمقراطية السياسية والاجتماعية ليست بحاجة ملحة في دول الريع، سواء على مستوى السلطة أو مستوى الشعب، فالأولى تشتري الثاني والثاني يعتاش على الأولى ولذا لا ترى الحركات الحقوقية في دول الخليج الصغيرة مثلا إلا في دواوين المثقفين وأوساط الفئات المهمشة كالمرأة والمضطهدين دينيا أو عرقيا أم طائفيا، أما quot;المواطنquot; الذي يأكل من فتات الريع سواء أن عمل أم لم يعمل، فلن يبدل ساعة الرفاهية التي يوفرها له هذا النظام بعصور من الديمقراطية.

هذا النوع من الدول يعتبر امتدادا لدول الجباية السلطانية التي سادت في القرون الغابرة، وإن تجملت اليوم ببعض رتوش العصر الحديث، وفرضت عليها المظاهر الديمقراطية بقوة العصا خصوصا بعد احداث الحادي عشر من أيلول، وهي دول انفاق بحت لا دول انتاج، وتكفينا نظرة الى الموازنة العامة للعراق التي يشكل الريع النفطي 95% أو أكثر من هيكلها وتشكل النفقات ما يربو على 75% أو أكثر منها للدلالة على أن الإرث الريعي قائم وبقوة ولن يزول ما لم تظهر نخب توظف النفط للتنمية لا للإنفاق، وتصنع بوارداته الخيالية قبل نضوبها أساسا لاقتصاد عصري يصنع تلقائيا وعبر الأجيال مجتمعا جديدا وقيما عصرية للعمل والإنتاج تقود إلى مدنية ومنها إلى ديمقراطية، أما اليوم فالترويج قائم للنموذج الإنفاقي الخليجي وعن الرفاه الاستهلاكي وعن الفقراء الذين سيتحولون بقدرة قادر إلى أغنياء في مجتمع يسير بملايينه الثلاثين إلى التحول إلى اقتصاد استهلاكي بشكل مطلق خاصة في ضوء السياسة النفطية التي نرى تباشيرها اليوم عبر تسليم رقبة هذه الثروة الإستراتيجية تماما إلى الشركات المستخرجة وهذا موضوع آخر يحتاج إلى مجلدات.

ونظرا للقوة الهائلة للسلطة التنفيذية في دول الريع و الثروة الخيالية المتاحة لها، فإن المشهد السياسي العراقي الحالي ما هو إلا انعكاس للصراع على احتكار تلك القوة والثروة الذي يوفره كرسي السلطة، وما حديث الشراكة إلا غطاء لتقاسم تلك الثروة، ولذا فلن تكن هنالك أية تنازلات طوعية لأي من الأطراف، فالتغيير في هذا النوع من الدول أما أن يأتي انقلابيا من داخل المنظومة الحاكمة أم بتدخل خارجي كما حدث عندما أسقطت الولايات المتحدة نظام الريع السابق، ولذا ينام الحكم قرير العين ما دام يشتري الولاءات داخليا وخارجيا، ولذلك أيضا ولدت حرب الولايات المتحدة على الإرهاب و انضمام الجميع إليها خوفا أو طمعا، ولاءات جديدة وانقسامات جديدة وفئات ترى أن من حقها أن تتمتع بالريع الذي تمتع به خصومها لزمن طويل، فخرجت الانقسامات المذهبية والقومية والإيديولوجية الدموية إلى السطح في عصر آخر من الصراع على الثروة برعاية الخارج، فدولة الريع لا يمكن أن تكون إلا صنيعة الخارج وسياساته.

حديث العراق ذو شجون، وهو صورة متقدمة لمستقبل عربي قادم ربما حتى ينضب النفط أو يجد العالم مصدر طاقة ارخص سعرا، فالمسألة ليست في وجود ديمقراطيين أو دستور يكفل الحقوق و قوانين، وإنما في بناء اقتصاد يكفل بناء الديمقراطية، فلم يبنى هرم في التأريخ من الأعلى إلى ألأسفل. وكبداية يمكننا أن نحلم أولا بدولة لديها ولو بعض من رؤية للعدالة والحكم الرشيد و تفهم لأهمية التربية الحقوقية والديمقراطية.

وحتى ذلك الحين، لا يسعنا إلا انتظار انهيار الدولة السلطانية التي ستعمل كل القوى السياسية القائمة على إبقائها على قيد الحياة، وبعدها فقط يمكننا الحديث عن بناء أوطان ودول و ديمقراطيات.