الفكرة التي أطرحها في هذه المقالة لست متأكدا ان كنت أول من قالها أم سبقني اليها آخرون، فهي تحاول التخلص من الكلام الانشائي والحماس الرومانسي للحب ليس فقط بين المرأة والرجل، وانما بمعناه الشامل بين جميع البشر.

اذا كانت مشاعر الحب عفوية تلقائية تصدر من داخل الانسان بمعزل عن الوعي والارادة.. فأين التضحية والعطاء والبشر يقادون من قبل مشاعرهم التي لايختاروها بأنفسهم وعقولهم وارادتهم، بينما فعل التضحية والعطاء هو فعل وموقف حر يتخذه العقل وتنفذه الارادة وهذا غير موجود في حالة الحب.

فمشاعر الأمومة التي هي أعلى درجات الحب في الوجود.. تخلق في داخل المرأة، وتجد الأم نفسها مرغمة بقوة هذه المشاعر على محبة اطفالها ومنحهم كل ماتستطيع من حنان ورعاية وبذل أغلى ماتملك، بل هي مستعدة افتداؤهم بحياتها استجابة لمشاعر الأمومة الضاغطة عليها والتي وجدت في داخلها من دون ان تختارها بإرادتها ووعيها، وايضا من دون ان تكون لديها القدرة على الامتناع عن حب اطفالها وكراهيتهم إلا في حالة كانت مصابة بمرض عقلي.

ونفس الأمر في علاقات المودة والصداقة التي تربط البشر، فأنت تقدم خدماتك للصديق لانك تشعر في داخلك بمشاعر المودة والمحبة له، بل انت اساس اختيارك له نابع من انبثاق مشاعر الاعجاب والمودة بشكل عفوي بعيدا عن العقل والارادة بفعل الانجذاب الروحي والارتياح الذي شعرت به نحوه فإتخذته صديقا لك، وبعد هذا القرار وعقد رابطة الصداقة يتدخل العقل والارادة لتنظيم الصداقة، ولكن يظل المحرك لها هو مشاعر المودة العفوية، وبالتالي كل مايقدمه الصديق لصديقه من خدمات ومساعدة هو بدافع هذه المشاعر ولايعد تضحية وعطاء لأنه ليس صادرا عن العقل والارادة.

أما عن علاقة الحب بين المرأة والرجل فهي المثال الأبرز على اشراق عاطفة الحب من اعماقهما في لحظة سحرية نادرة من دون اختيارهما، حيث تقوم هذه المشاعر بالضغط عليهما بقوة للارتباط والوصال واللقاء والاتحاد الجسدي... وكافة تفاصيل الحب ومراحله عبارة عن انقياد اجباري قهري لمشاعر داخلية غير خاضعة لسلطة العقل والارادة، فيما بعد قد يتدخل العقل والارادة لفحص مشاعر الحب وتنظيمه، ولكن يظل دورهما هامشيا امام قوة الحب المنفلت من أية سلطة، وما يقدمه الحبيب لمحبوبه من خدمات ومساعدة وتكريم وهدايا وكل شيء ثمين هو نتيجة إلحاح مشاعر الحب التي تفور في الاعماق، وايضا في هذه الحالة لاينطبق على سلوك العشاق مفهوم التضحية والعطاء فيما بينهم.

فالتضحية والعطاء فعل حر منعتق من أية سلطة داخلية أو خارجية، والموقف الوحيد الذي نستطيع ان نصنفه في خانة التضحية والعطاء هو حينما نقدم خدماتنا ومساعدتنا الى اشخاص غرباء لانعرفهم ولاتوجد مشاعر مودة داخلية نحوهم، او الى خصومنا الذين نكرههم.. هنا فقط يسمى موقفنا الانساني هذا تضحية وعطاء لأن فيه تصميم واختيار من قبل العقل والارادة.

طبعا حياتنا اليومية ليست بحاجة الى هذا النوع من التحليل والتصنيف للمشاعر والأفعال لأن نتائج التعمق في التحليل احيانا تفسد عفوية الحياة وتقتل جمالها، ولكن على الصعيد النظري لابأس من التأمل والتفكير في الوجود والانسان والكون وغيرها.

[email protected]