هل ماحدث في مصر من تصاعد للغضب الشعبي و من مواجهات شوارعية محتدمة و من رفع للشعارات الرافضة للنظام السياسي و الإجتماعي الحاكم أمر نادر الحدوث أو أنه حالة إستثنائية لتاريخ طويل من الصمت و الصبر و التململ الصامت؟ أم أنه حالة شعبية معروفة تحدث بين الفينة و الأخرى و لأسباب و عوامل مختلفة، ومن يتتبع التاريخ المصري الحديث يعلم جيدا بأن الشارع المصري كان منذ أوائل القرن الماضي يعيش على إيقاعات غليان شعبي متدفق و مستمر عبر عن نفسه منذ أن فشلت الثورة العرابية ضد حكم الخديوي توفيق عام 1882 و من ثم الإحتلال البريطاني لمصر بثورة الشعب المصري بمسلميه و أقباطه و طبقاته المختلفة عام 1919 للمطالبة بعودة زعيم حزب الوفد سعد باشا زغلول ورفاقه من المنفى، ومعروف دور الحزب الوطني المصري القديم في إشعال راية الثورة و الإنتفاضة ضد الإحتلال و الظلم الإقطاعي و تعسف القصر، و أستمرت الثورات الشعبية المصرية بروافدها الفنية و الشعبية التي عبرت عنها أناشيد الراحل سيد درويش و اهمها أنشودة بلادي التي هي اليوم السلام الوطني المصري و أنشودة ( قم يا مصري مصر دايما بتناديك.. قم لنصري نصر دين واجب عليك )..

وغيرها من الشعارات الجميلة والوطنية الراقية التي شكلت ملاحما نضالية لعقود ماضيات رسمت الصورة الكفاحية لإبن النيل الأسمر، ولعلها من غريب الصدف أن تتزامن الأحداث الأخيرة و بتوافق تاريخي غريب مع الأحداث الوطنية الكبرى التي سبقت حركة 23 يوليو 1952 وكانت ممهدا لها وهي أحداث تصاعد نشاط الفدائيين المصريين ضد القواعد العسكرية البريطانية في قناة السويس و الإشتباكات التي حدثت بين الجيش البريطاني وقوات البوليس المصري في الإسماعيلية و التي كانت مجزرة حقيقية للشرطة المصرية وقتذاك ثم ماتبع ذلك من أحداث فوضوية كانت قمتها في حريق القاهرة الشهير يوم 26 يناير 1952 بينما كان الملك الراحل فاروق يحتفل بقصر عابدين بولادة ولي عهده ( أحمد فؤاد )..

و معروفة التداعيات الخطيرة التي أدت فيما بعد لسقوط النظام الملكي وسيطرة الجيش على السلطة في مصر منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم بوتائر وطرق مختلفة وطبعا كان للشباب المصري وقتذاك دور كبير في أحداث تلكم الأيام وحيث جاءت حركة يوليو لتسير بالأوضاع المصرية صوب خيارات قومية بدأت إرهاصاتها بعد معركة الجلاء عام 1954 ثم معركة تأميم قناة السويس و العدوان الثلاثي الذي أتبعها عام 1956 وبروز القيادة الوطنية و القومية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي أبعد كل الضباط المنافسين و أنفرد بزعامة ثورة يوليو و أدخل مصر في قلب العالم العربي من خلال قضايا الوحدة القومية ودعم الإنقلابات في العالم العربي في ظل حركة ثورية عالمية و تصاعد لنشاط الحركات اليسارية والقومية في العالم مع حركة الإستقلال التي ألأمت بالقارتين الآسيوية و الإفريقية و إندلاع نيران الحرب الكونية الباردة و إنقسام العالم بين معسكري الغرب الأمريكي الرأسمالي و الشرق السوفياتي الإشتراكي و ما تبع ذلك من مصادمات و حركات إنقلاب و مؤامرات مضادة وحركات كر وفر بين الحركات الوطنية و الأنظمة العسكرية ودور مصر الكبير وقتذاك و توسع مساحة الدور المصري في خارطة العالم الثالث في عصر الأحلام الثورية مما أدى في النهاية لهزيمة عسكرية مذلة أمام الإسرائيليين في حرب الأيام الستة في الخامس من يونيو عام 1967 التي كانت صدمة حقيقية لكل المناصرين و المعجبين بنظام عبد الناصر الذي صادر الديمقراطية و كل مظاهر الليبرالية السابقة و أقام نظاما إشتراكيا و أمنيا صارما كانت السلطة و الغلبة فيه لأجهزة الأمن و المخابرات في مرحلة كانت مثل تلك ألأنظمة هي المعيار لمفاهيم التقدمية و الإشتراكية و مقاومة الإستعمار!

لقد فوجيء الشعب المصري بتلك الهزيمة المرة و كانت التظاهرات الشعبية الحاشدة التي خرجت رفضا لتلك الهزيمة و إصرارا على إستمرارية عبد الناصر بقيادة المرحلة رغم تقديمه لإستقالته العلنية واحدة من كبرى المتغيرات الشعبية التي شعرت بالذل و الإهانة و الإنهيار المفاجيء لطموحات كبيرة كانت أكبر من كل إمكانيات النظام السياسي الذي دخل في معركة تصفيات داخلية إنتهت بسقوط المؤسسة العسكرية التي كان يمثلها الرجل الأول مكرر في النظام الناصري المشير الراحل عبد الحكيم عامر الذي تم إنهاء حياته بطريقة ميلودرامية زاعقة تشبه النهايات الإغريقية المعروفة، وكذلك سقوط المؤسسة المخابراتية أو دولة المخابرات التي كان يمثلها الراحل صلاح نصر مدير المخابرات المصرية الأسبق و أحد مؤسسيها و احد رجال حركة يوليو، ثم بداية مرحلة جديدة سميت بمرحلة محاولة تجاوز آثار العدوان و إعادة بناء الجيش المصري و الإستعداد لمرحلة الثأر من الهزيمة و إستعادة الأرض المحتلة في سيناء مع بدء محاكمات لبعض قادة الجيش المصري المسؤولة عن الهزيمة لم تكن نتائج تلك المحاكمات متطابقة مع المزاج الشبابي العام فكانت تظاهرات الطلاب المصريين عام 1968 العنيفة التي جاءت لتشكل التحدي الأكبر في وجه نظام أمني و عسكري لم يتعود مجابهة الإحتجاج الشعبي، ثم جاءت مرحلة حرب الإستنزاف بين أعوام 1967 و 1970 وهي السنوات الصعبة التي صبر خلالها المصريون صبرا أسطوريا لتجاوز النكسة وجاء الرحيل المفاجيء للرئيس جمال عبد الناصر في سبتمبر 1970 ليكون حدثا مفصليا شكل إنعطافة مهمة في تاريخ مصر السياسي الحديث، فهل تستمر ثورة يوليو خصوصا و أن قياداتها التاريخية كانت قد تناقصت بفعل سنوات السيطرة الفردية لعبد الناصر، أم سيختط المصريون طريقا جديدا؟ فكان الخيار الطبيعي يتمحور حول الإستمرارية وحول ضرورة تحقيق الهدف بإزالة آثار العدوان مع تصاعد مريع للصراع الداخلي على السلطة إنتهى بحركة 15 مايو 1971 التي هيمن خلالها الرئيس الراحل أنور السادات على الوضع العسكري و السياسي بعد أن أطاح ببقايا رفاق عبد الناصر و موظفي مكتبه بدءا من وزير الدفاع الفريق محمد فوزي مرورا بائب الرئيس علي صبري و ووزير الإعلام ضياء الدين داود وقادة التنظيمات الطليعية في الإتحاد الإشتراكي العربي ووزاء الداخلية شعراوي جمعة و إدارة المخابرات و غيرها، لقد كان الأمر أشبه بإنقلاب كامل رسخ من سلطة أنور السادات و أزاح بشكل نهائي كل عناصر الإزعاج التي كانت تهدد سلطته بالتعالون طبعا مع بقايا نظام عبد الناصر أيضا و منهم الوزير الأسبق و الصحفي الأوحد قتذاك محمد حسنين هيكل الذي لعب دورا محوريا في صعود السادات قبل أن يختلف معه عام 1974 و يطيح به من إمبراطورية الأهرام و من التمتع بإرشيف الرئاسة!!

كان الشباب المصري وقتذاك هائجا بصمت وهو يتفرج على الصراع السلطوي وكان يمني النفس بقرب إندلاع معركة الثأر مع إسرائيل التي تأجلت لمرات عدة منذ أن قال السادات بإن عام 1971 سيكون عام الحسم ! ثم إندلعت الحرب الهندية الباكستانية التي قسمت الأخيرة وظهور دولة بنغلاديش عام 1971 ليساهم ضباب تلك الحرب في تأجيل الحسم حتى جاءت لخظة المواجهة التاريخية و الحاسمة و التي أعطت الشرعية الكاملة لنظام السادات في 6 أكتوبر 1973 التي عبر خلالها الجيش المصري السويس في أكبر إنجاز للعسكرية المصرية في التاريخ الحديث وقدم الشباب المصري دمه في رمال سيناء بهدف التحرير و ليس الهروب و الإنسحاب كما كان الحال عام 1967 لتنتهي تلك الحرب النهاية المعروفة و ليتغير الوضع العام في مصر التي شهدت بعدها تحولات سياسية و إقتصادية و إجتماعية كبرى بلغت الذروة مع إعادة إفتتاح قناة السويس للملاحة الدولية عام 1975 و تعيين السادات لأحد قادة حرب اكتوبر كنائب له وهو قائد السلاح الجوي الذي حسم المعركة منذ بدايتها و أسقط نظرية الطيران الإسرائيلي الذي لايقهر وهو السيد حسني مبارك بإعتباره ممثلا لجيل أكتوبر الشاب وقتها الذي غسل عار هزيمة يونيو، بعد ذلك جرت مياه ودماء عديدة تحت كل الجسور و حدثت المشاكل الداخلية بعد عودة المنابر و إعادة أشكال التعبير الديمقراطي ومحاولة التخلص من الإرث القمعي الطويل و المعقد ثم بداية مرحلة ما بعد الحرب و تراكم المشاكل الإقتصادية في ظل إقتصاد منهك لم يتعاف بعد من سنوات الهزيمة و الإستنزاف فحدثت إضطرابات 17 يناير 1977 أيضا بعد رفع الحكومة لأسعار الخبز مما أدى لإضطرابات شعبية هائلة كانت المطالبالت خلالها تتمحور حول الحالة المعيشية مما أضطر الدولة للتراجع عن إجراءاتها ولكن بعد ثمن مرعب من التخريب الداخلي وكان التيار اليساري هو من يحرك الشارع وقتذاك، وقد عرف التاريخ المصري الحديث تلك الأحداث بإنتفاضة يناير الشعبية التي أسماها السادات في خطابه الشهير ب ( إنتفاضة الحرامية )!.. هدأت الأمور بعد ذلك مع إنشغال الوضع الداخلي المصري بالمبادرة السلمية الشهيرة للسادات بزيارة القدس في نوفمبر 1977 والتي ترافقت مع وعود الرخاء و الإستثمارات ثم جاءت مرحلة المقاطعة العربية لمصر التي دخلت في مرحلة صراع داخلي كبيرة تمثلت في تصاعد نشاط الجماعات الدينية و الإحتقان الطائفي بما خلفه من أجندات تكفيرية و إرهابية تمثلت حدودها القصوى مع حادث إغتيال الرئيس المصري أنور السادات صبيحة يوم السادس من اكتوبر 1981 الذي هز مصر و العالم العربي ومن ثم بداية تصاعد الصراع ضد الجماعات التكفيرية و الإرهابية التي حاولت الهيمنة على مصر وتسببت بحوادث إرهابية مروعة عانت منها مصر وتطلبت تضحيات كبيرة من قيادتها ممثلة بالرئيس حسني مبارك وفريقه الذي تمكن من التعامل مع ملفات صعبة كثيرة تبدأ من الوضع الإقتصادي و تستمر مع الإنفتاح السياسي و إعادة الإندماج في النظام العربي و إنهاء المقاطعة العربية ولاتتوقف عند حدود المشاريع التنموية الكبرى والإصلاحات السياسية في ظل وضع إقتصادي وديموغرافي صعب وملفات سياسية و مشاريع متداخلة إقليمية كبرى، بدون شك فإن الشباب المصري يبحث عن آفاق جديدة ورؤى مختلفة في زمن مختلف أضحت العولمة وحرية تبادل المعلومة والتواصل الكوني واحدة من أهم مفرداته، فشباب الألفية الثالثة هم عير شباب عام 1977 كما أنهم مختلفون بالكامل عن شباب 1967 وعن الشباب الذين خاضوا حروب الفدائئيين في السويس ضد الإنجليز، ولكنهم يشتركون في نفس الحماس و الرؤية الوطنية ومحاولة الوصول بمصر لمرحلة جديدة و مختلفة ومتقدمة، فشتاء الغضب الحالي في برمصر لم يأت تأثرا بأحد ولا بأي تجربة أخرى، فالتجربة الشبابية المصرية خالدة وشفافة و متألقة ومبدعة و هي حاضرة في كل مشاهد التاريخ المصري الحديث، ستكون هنالك متغيرات بطبيعة الحال، ولكن مصرليست بلدا هامشيا بل أن ما يحصل فيها ستمتد تأثيراته لكل دول الإقليم.. وقيام الرئيس حسني مبارك بتعيين اللواء عمر سليمان مدير المخابرات نائبا له لأول مرة منذ ثلاثين عاما هو إشارة واضحة إلى شخصية الرئيس القادم سيتنحى مبارك لا محالة بعد هدوء الموقف وسيكون عمر سليمان هو البديل الجاهز، فمصر منذ عام 1952 لن يحكمها سوى جنرال قادم من المؤسسة العسكرية تلك هي الحقيقة الوحيدة،. الغضب في بر مصر سينتهي لامحالة بأمان وسلام لتبقى مصر دائما وأبدا مؤئلا للخير و السلام..

فادخلوها في سلام آمنين.. وحفظ الله أشقاءنا في مصر من كل مكروه... ولله الأمر من قبل و من بعد.

[email protected]