ليس الحب وحده اعمى، الكراهية ايضا عمياء. واذا كان عمى الحب فضيلة - اذ لا يرى المحب في محبوبه سوى الجمال والخير، وهو امر حسن، ذلك ان التعامي بقايا رحمة مطلوبة - فإن عمى الكراهية رذيلة، اذ لا يرى الكاره في المكروه سوى الشر، ولا يهمه سوى امر واحد، محوه عن الارض، حتى وان كانت السبيل تقضي بتدمير بلد باكمله.
رحب المعارضون لصدام بغزو الامريكان للعراق، بل وسعوا اليه سعيا حثيثا، ولم يروا ما يمكن ان يلحقه الديناميت وربع مليون جندي امريكي من تدمير وقتل وفوضى، وهو ما حدث فعلا. وفرحَ الكارهون للقذافي بعملية الاطاحة به وان كان رجالها طالبانيون هوى وعقيدة، يساندهم حلف الناتو - الذي اعوزه سواهم، ليزيح العدو الذميم، حليف الامس- بغاراته الوحشية التي جعلت من ليبيا ارضَ يبابٍ مخضبة بدماء ما يقارب من خمسين الف بريء.
وها هي الكراهية مرة اخرى تتجلى احتفالات ورقصا ومرحا وزغاريد لقتل رئيس دولة وهو اسير جريح على يدي آسريه. القتل الذي يبدو اغلب الظن انه جاء املاءً من الجهات العليا. تخلصا من تبعات واجراءات ودوخة رأس، وتجنبا لاشكالات وتعقيدات ومراسيم مزعجة تستعيد فترة اعتقال صدام ومحاكمته. يبدو ايضا ان من ساندوه في الماضي ارادوه ميتا بأي ثمن كي تـُدفن معه اسرار كثيرة ربما تفضح امورا غير مرغوب فيها، حين كان ورقة نافعة في ايديهم. اسرار تبدأ من انقلاب الضباط الوحدويين قبل اربعين عاما مرورا بسلسلة الاغتيالات والتغييبات وليس انتهاء بحروب كشمير والعراق وفلسطين. القذافي حيا سجينا افضل منه quot; شهيداquot; واكثر عبرة. لكنْ قضي الامر.
تلك بعض سجايا عمى الكراهية، يستولي على القلوب والمشاعر، ويفضي بانسان ما الى مباركة أمر جَللٍ كالقتل، شفاءً للصدور، حتى وانْ كان اختراقا للمبادئ الانسانية التي يومن بها.
ليس للقتل من تسويغ او شريعة انسانية، بل يظل جريمة صريحة، سواءً أكان ابتداءً ام جاء قصاصا. ولا يمكن لمن يومن بمفاهيم العدالة وحقوق الانسان انْ يبارك عملية قتل حتى لو كانت لمجرم عتيد كالقذافي...والا فأي فضيلة بقيت له على من سواه من القاتلين او المباركين. اقول القتل، واعني ايضا عمليات الاعدام تحت منصات المحاكم. التي يسميها اغلب الناشطين في حقوق الانسان بالجريمة quot;القانونية الرسميةquot; وهي لا تقل بشاعة عن القتل الاعتباطي. بل هي اكثر غرابة ووحشية، ذلك انها تتم بقصد وتصميم وبرودة اعصاب خلافا للقتل الاعتباطي الذي ياتي استجابة لمشاعر وانفعالات غامضة غالبا ما تكون خارج ارادة القاتل... ليس دفاعا عن، او تبريرا للقاتلين بالطبع، بل مسايرة للشرايع الانسانية الحديثة الراقية التي جعلتْ، حسب ميشيل فوكو، من العقاب محاولة فقط للردع والمنع، وليس انتقاما او تدميرا.
كنت اظن بكثير من اليقين ان امرا كهذا مفروغ منه، لكن يبدو ان ظني، وبعضه ليس اثما، على خطأ. على الاقل ليس في عالمنا العربي، حيث اصبح القتل المصدرَ الوحيد للاحتفال والفرح، وصارت وجوه القتلى على الفضائيات المشهد الوحيد الذي تانس اليه العيون والقلوب.
علما ان ما يحدث في ليبيا لا يمكن ان يندرج بأي حال ضمن موسم الربيع العربي، فلا يمكن مقارنته بما حدث في تونس او مصر، او بما يحدث في سوريا واليمن حيث الثورات خيار الشعب وادواتها الشعب وباسلوب سلمي مشروع. مايحدث في ليبيا لا يختلف كثيرا ، وليس مبالغة او تسويفا، عن الانقلابات العسكرية التي غمرت بلدان العرب بـquot;الريلاتquot; الامريكية منتصف القرن الماضي حيث حلتْ الانظمة الدكتاتورية محل الملكيات الديمقراطية التي كانت قفزة نوعية باهرة في عالم العرب، لا مثيل ولا سابق لها، كان يمكن لها ان تنمو ويشتد عودها وتستقيم اكثر لولا الانقلابات التي اجهضتْ على الاخضر واليابس. والا فما الفرق، بربكم مثلا، بين quot; الثائرquot; عبد الكريم بلحاج قايد العمليات٬ المعروف بايديولوجيته الارهابية المعلنة، والملطخة يداه بدماء الالاف من الضحايا ومن بينهم العراقييون، وبين شخص القذافي.
على اية حال، لننتظر ونر، انْ كان الثوار قادرين على رمي اسلحتهم والعودة الى بيوتهم واعمالهم استجابة لنداء الحكومة الليبية الجديدة، ام ان قانون ادمان السلاح سيفرض وصاياه وتعاليمه القاضية بأن اليد التي يطربها السلاح لن تقدر على العيش والى الابد دون مغازلة السلاح. اتمنى من كل قلبي ان يبرهن quot; الثوارquot; الليبيون ان قانون ادمان السلاح هذا ليس حتميا ولا ساريا على الدوام.
من بعض المفاهيم العظيمة، التي تناولها المرحوم علي الوردي في اكثر من موضع، انه ليس من انسان ملاك وآخر شيطان. كل امرئ يولد على الفطرة نقيا كصفحة بيضاء، ثم تنسجه البيئة على النحو الذي سيصير عليه. ومن يدري ربما قيض لأي واحد منا انْ يكون القذافي او صدام لو شاءت الاقدار انْ نولد في البيت الذي ولدوا فيه وانْ تمر علينا الرياح التي مرتْ عليهم، وان نغتسل ونشرب من النهر الذي اغتسلوا فيه وشربوا منه. فلا يغرن احداً كونه نقي السريرة، ولا يجزعن احد من كونه مغمورا بالضحايا وملطخة يداه بالدماء. تلك مصايد الحياة وتصاريف الاقدار. لعله قد نجى الناجون من ذلك القدر التعيس بضربة حظ، لا اكثر ولا اقل.
ربما سيستاء البعض من حديثي هذا، وربما يراه بعضهم مواربة ومجاملة لنظام القذافي. او يحسبه بعضهم خيالا طاويا (من الطاوية) ورومانسيا حالما، لكني رأيت الواجب الاخلاقي والضمير يمليان علي انْ اقول كلمة على الاقل استنكارا ضد هذا الواقع المشوش المرعب، وتحللا منه. لعله يأتي اليوم الذي لا يجيء.
هل قلت شيئا ما، ذا معنى؟ اتمنى ان لا اكون.
سدني
التعليقات