واحدة من النتائج الحتمية للسياسة الطائفية في العراق هي تنمية quot;حزب البعثquot;. والسياسة ونتيجتها معا تعكسان وجهة العراق المعاكسة لتيار quot;الربيع العربيquot;. فروح هذا التيار تمثل تجاوزا للطائفية والاستبداد البعثي معا.
كان صدام حسين قد اجهز في الواقع على حزب البعث. فالسياسة مجتمعة، والبلاد بأجمعها، في عهده قد تلخصتا بشخصه. وأما ما تبقى من الحزب في المقطع الاخير من quot; عراق صدامquot; فهو منظمة أمنية هشة ومهزوزة. وعند سقوط بغداد عام 2003 بدت تلك المنظمة البائسة وكأنها قد تبخرت. ففي تلك اللحظة الفاصلة لم يجد quot; البعثيquot; ما يدافع عنه، فآثر السلامة، وتقبل الإنمحاء.
ولكن سياسة اعلان الحرب على البعث شكلت احد الاسباب المهمة في اعادته نوعا ما الى الحياة، وفي تنميته أيضا. ان الأمر رقم واحد الذي اصدره سيء الذكر بول بريمر، القاضي باجتثاث البعث، ثم أمره الرقم 2 القاضي بحل جميع المؤسسات الأمنية، وضمنها الجيش والشرطة، اسفرا عن الاجهاز على الدولة، ومن ثم انحدار البلد الى الفوضى.
هذه النتيجة عنت، في احد وجوهها، مساواة اجهزة الدولة، او مماهاتها بالبعث. كل موظف تلبسه الخوف من تهمة البعث. بل أن التهمة مست كل عراقي في الداخلquot; وإن لم ينتمquot;. وجاء الدستور العراقي عام 2005 ليرفع الحرب على البعث الى أعلى درجاتها، مع فرضه مادة تحظر quot; البعث الصداميquot; تحت اي مسمى كان، وتمنعه من المشاركة السياسية منعا باتا. وهي مادة عارضها جميع الاعضاء السنة في لجنة كتابة الدستور، وبعض الشيعة العلمانيين كزعيم القائمة العراقية اياد علاوي.
وكالعادة فان الاجراءات السياسية القمعية تولد نتائج عكسية. عام 1959 لم يكن عدد البعثيين يزيد على بضع مئات. ولكن ما ان هتف الشيوعيون quot; الما يصفق عفلقيquot;، حتى تضاعفت أعدادهم وازدادت شعبيتهم. ولربما كان البعث في العراق اليوم قد امسى نسيا منسيا، او بالكثير شكل رقما هامشيا في معادلة العملية السياسية، لو لم يوجد الإجتثاث بعد 2003، ولو وضع القانون فوق السياسة، واحيل الجناة من قياداته وأعضائه الى القضاء، وتحققت بذلك المصالحة الوطنية. ولكنه quot; حظquot; البعث مرة أخرى. ذلك ان تصلب quot; الحكم الشيعيquot; في الإجتثاث أسفر عن quot; تطييفquot; البعث. وكان ذلك أخطر نتائجه.
ولعل أحد أهم أسباب quot; التطييفquot;هو أن أحزاب الاسلام السياسي الشيعي الحاكمة لم يكن لديها نفوذ في المحافظات السنية. ففي هذه المحافظات وجد البعثيون السابقون الحماية والقبول، ولم يتعرضوا لما واجهه نظراؤهم في المحافظات الشيعية، من صنوف قهر وتنكيل بلغت القتل في حالات انتقامية كثيرة، لدرجة اضطرت معها المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني الى اصدار فتوى، منع بموجبها أعمال التأر من البعثيين، ودعا الى معالجة أمور المسيئين منهم عبر القضاء.
وفي أحسن الأحوال فان البعثيين السابقين من الشيعة قد نجوا عبر الولاء للحكم الجديد، واحيانا الانخراط في أحزابه. وهؤلاء عددهم ليس قليلا في بلد كان محكوما بالحزب الواحد.
والخلاصة هي ان سياسة quot; اجتثاث البعثquot; ألبست الحزب المحظور ثوبا سنيا. وهكذا ما ان اعلن مؤخرا عن فصل نحو 140 من الاساتذة والموظفين في جامعة صلاح الدين في اطار الاجتثاث، ثم اعتقال مئات اخرين من نفس المحافظة بتهمة اعادة تنظيم الحزب والتخطيط لقلب نظام الحكم، حتى تقدم مجلس المحافظة بطلب تحويلها الى اقليم.
وقد عارض رئيس الوزراء الطلب لأنه quot; بني على خلفية طائفية وحماية البعثيينquot;، على حد تعبيره. وفي اشارة منه الى القائمة العراقية، ذات الأغلبية السنية، اتهم شركاء في العملية السياسية بتشكيل quot; غطاء لحزب البعثquot;. وتستبطن هذه الاتهامات رؤية التحالف الشيعي الحاكم الى القائمة العراقية والى السنة والى البعث باعتبارهم امرا متقاربا، ان لم يكن واحدا.
وكانت هذه الرؤية وراء تكتل قوى الاسلام السياسي الشيعي في quot; التحالف الوطنيquot; عقب انتخابات 2010 ، واستقتاله لمنع القائمة العراقية الفائزة من تسلم رئاسة الحكومة. فالتسليم بفوز القائمة العراقية هو في نظر الحلف الشيعي بمثابة عودة الى الحكم السني ذي النكهة البعثية.
وجراء حرمانهم من ثمرة الفوز في الانتخابات، في مخالفة صريحة للدستور، وتعطيل سافر لمبدأ التداول السلمي للسلطة، وجد السنة انفسهم مواطنين من الدرجة الثانية. فالنظر والعمل لدى قوى الاسلام السياسي الشيعي يقوم على احتكار المنصب الأول في البلاد، وهو رئاسة الوزراء، مع ملحقاته الخاصة بعصب السلطة من قوات مسلحة ومخابرات.
وفي هذا الإطار، واستعدادا لاستحقاقات الانسحاب الاميركي نهاية هذا العام، تأتي الاجراءات الأخيرة الخاصة بالإجتثاث والإعتقالات التي شملت المئات، وبعضهم من قيادات الجيش السابق.
وهكذا فانه بعد نحو تسعة أعوام من سقوط عراق صدام، تخللتها حرب السنتين الطائفية، يبدو العراق مراوحا في مكانه، في مربع الصراع الطائفي: التحالف الشيعي يشدد قبضته على السلطة، والمحافظات السنية تنكفىء على نفسها متطلعة الى نوع من الحماية والاستقلال النسبي عبر تكوين الأقاليم.
وذلك كله يظهر انه ليس لدى الطبقة السياسية في العراق ما تفعله سوى الصراع على quot;الحكمquot;، وسوى ردود الفعل على ذلك الصراع، وسوى استثمار الكرد quot;الجيدquot; للحالين، في وضع من الانغلاق، والبعد التام عن أي رؤية لكيفية مواجهة الفساد والإرهاب وتدهور الخدمات، ناهيك عن غياب اي رؤية استراتيجية لمستقبل البلد.
ويبدو ان لصورة السياسة العراقية في الداخل ما يناظرها في الخارج. فخلال الاجتماع الوزاري الأخير في الجامعة العربية، كانت دول مجلس التعاون الخليجي قد طرحت مشروعا لتجميد عضوية سوريا في الجامعة ، وطرد سفرائها من الدول العربية، ومطالبة الأمم المتحدة بفرض حظر جوي على سوريا.
وكان العراق ولبنان في مقدمة المعارضين للمشروع الخليجي! كان بلد quot;الهجوم على البعثquot; في الداخل، مدافعا في الخارج عن آخر حكومة للبعث. والواقع انه ليس البعث هو الموضوع هنا ولا هناك. انما هي حمى الطائفية اللاهبة السائرة، بقيادة ايران، في موجة مضادة لتيار quot; الربيع العربيquot;، ومهددة بحرف مساره عن أفق الإنعتاق من quot; العصر العثمانيquot;. وهو عصر كان العراق فيه مطحنة للصراع بين quot;العجم والرومquot; ( اي ايران وتركيا بالتسمية العراقية حينذاك). وفي تلك الأيام الموحشة كثفت البلاد محنتها بعبارة سرت بين الناس مسرى المثل، وهي العبارة القائلة quot; بين العجم والروم بلوى ابتليناquot;.
وليست هذه الأيام أقل وحشة على العراق وهو يجد نفسه عائدا الى ما قبل نقطة انطلاقه الى الحداثة، ومكبلا بالثقل الفولاذي لأغلال quot; العصر العصمليquot;. فكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا!