كان من المؤمل أنّ تنهض العملية السياسية في العراق، بمهامّ الدخول في الحياة الديمقراطية السليمة وقيادة المرحلة الإنتقالية حسب التوجهات المنصوصة عليها دستوريا بهدف الوصول الى الإستقرار السياسي وإعادة إعمار البلاد وأن تتمكن القوى الوطنية والديمقراطية التي إنحسرت أدوارها الطبيعية وتراجعت تأثيراتها السياسية خلال عقود الديكتاتورية وما تلتها بعد السقوط من إنقسامات طرأت على الهوية الجامعة ومن توازنات سياسية هشة فرضت حتى اليوم نتيجة التركة الثقيلة وتعقيدات الإحتلال وجرائم الإرهاب الوافد والنزاعات الداخلية المستمرة ودورالإجندات الخارجية في تفكيك وإعادة ترتيب الوضع العراقي وفقا لمصالحها، من إسترجاع تلك القوى الوطنية الحقيقية لحيويتها وقدرتها على العمل في مختلف الميادين السياسية والساحات الإجتماعية والثقافية التي أقصيت منها قسرا، بإعتبارها كانت تمثل النقيض المباشر للنظام الديكتاتوري السابق، ولا زالت تشكل الضمانة الحقيقية لقطع الطريق أمام أي شكل من أشكال الردّة والنكوص والعودة الى الإستبداد، بل وهي الأكثر قدرة على تجميع باقي القوى الوطنية التي أسست كلّ رهاناتها السابقة في مرحلة المعارضة للنظام الديكتاتوري على هذا الأساس.

فالمعروف أنّ الديمقراطية والنظام السياسي الذي يتبناها ويقوم عليها، وإن كانت في مراحلها الإنتقالية، لا يسيّرها واقعيا، سوى منطق البحث عن توسيع دائرة المشاركة السياسية في صناعة القرار من خلال تشجيع المبادرات الجماهيرية المدنية وتعبئة الأفراد والجماعات ومنظمات المجتمع المدني المستقلة، للإهتمام بالشأن العام والخروج من حالة الإستقالة الأخلاقية التي فرضت عليهم وأجبروا عليها خلال عقود طوال، وكذلك توسيع دائرة المنافع الإجتماعية العامة والمصالح الوطنية، كي يعتمد إستمرار ونجاح النظام الجديد بالفعل،على مبدأ التأييد الشعبي من ناحية، والمساهمة الجادّة من قبل مسؤولي الإدارة والدولة، في بناء مجتمع سياسي متوازن، وخلق مواطن سياسي مدرك وواعي تماما لحقوقه وواجباته، من خلال البدء بالإصلاح الجذري للمؤسسات العامة، قبيل سوق المواطنين الى إنتخابات شكلية ورمزية في ظلّ التحديات والتدخلات والأوضاع الإستثنائية وزجّ الطوائف والعشائر والأثنيات في الحياة السياسية وغياب القوانين الناظمة للإنتخابات ولتشكيل الأحزاب والتي ستتحكم بنتائجها حتما، وكما شهدنا، الولاءات الفرعية والثانوية التي يسهل على الأجندات الأقليمية والدولية في توجيهها والتلاعب بها، من ناحية أخرى.

بيد أنّ التصورات العمياء والحسابات الأنانية للنخبة السياسية المتنفذة هذا اليوم في العراق وتربيتها الحزبية الطويلة والقائمة على الخضوع والإذعان والإنقياد، ومصالح قياداتها التي إستجدت فجأة وبسرعة فائقة بعد عام 2003 وحوّلتها الى طبقة خاصة فوق المجتمع وذات إمتيازات خيالية، دفعتها الى أن تمارس دورها الخطير أيضا، في إجهاض الحلم الديمقراطي المنشود وتحويله الى كابوس يومي تعيشه الأغلبية الإجتماعية المسحوقة والى نزاعات عقيمة لا تنتهي، ومهاترات سياسية متجددة حول أصغر الأمور والمواقف والأحداث التي لن تكون أي منها، سوى مناسبة جديدة لإضافة أرقام جديدة الى قائمة الضحايا المدنيين الأبرياء. وبالنتيجة تحولت الدولة والمؤسسات المنبثقة عنها على أيدي الجماعات الحاكمة الى ميدان مفتوح على صراعات لا تخضع الى أي منطق ولا تحكمها أية قواعد سياسية وأخلاقية، وعلى نزاعات فردية تعبّر عن المصالح الضيقة لهذا الزعيم السياسي أو ذاك ممّن لا يتوانون في أية لحظة، عن إعلان الحرب والمواجهة وتوتير الأوضاع العامّة والتلويح بالعنف والسلاح وإعادة نشاط المليشيات، دون إعتبار للمصالح الوطنية العليا في ضمان الأمن الوطني والسلم الأهلي.

وإذا كان الإصرار والعناد المتبادل بين أقطاب ورموز العملية السياسية وبالأخص كتلتي العراقية ودولة القانون، يسعى مباشرة أو بصورة غير مباشرة، على إفشال كلّ محاولات التقارب والإنفتاح والتفاهم والى إيجاد حلول مقبولة لتحديد قواعد التعامل السياسي فيما بينها، فإنّ الشعور الأدنى بالمسؤولية الوطنية يقتضي الإستقالة العاجلة للحكومة الحالية والدعوة الى إنتخابات مبكرة تستفيد من كلّ أخطاء ونواقص المرحلة السابقة بدلا من الإنتصارات الوهمية المؤقتة التي يعتقد كلّ طرف سياسي تحقيقها إزاء الخصوم.
أمّا إذا إستمر الحديث المألوف عن الإصلاح السياسي والإجتماعي المؤجل دوما، بمثابة علكة تلوكها خطابات ووعود المسؤولين في المناسبات دون تحقيق أية نتائج عملية ملموسة في الواقع، فإننا سوف نضيف فشلا آخرا الى قائمة الإخفاقات الطويلة لهذه الأوضاع التجريبية الشاذة منذ عام 2003 وتكون المطالبة الجماهيرية المشروعة والعاجلة بعودة شيء من النظام الى حالة اللا نظام السائدة، هي أكثر من واجب وطني وديني وأخلاقي، ينبغي تأديته بأي ثمن.

[email protected]