ولكن كما أن الدكتاتور العربي لا يتواني عن إطلاق الرصاص لقتل المواطنين العزل للحفاظ على سلطته، لا يتواني كثير من المثقفين في بلادنا عن إطلاق رصاصهم اللغوي لقتل الإمكانات في شعوبنا للحفاظ على مكانة نخبوية. فلو كنا نسمع ونعقل، لعقلنا أن أن الهجرة الضخمة من العالم العربي للغرب هي في حقيقتها تثبت عكس كل هذه الاتهامات الرخيصة. فهذه الهجرات تعكس تعطش العقول الذكية والإرادات الطموحة في تحقيق ذاتها، وهي لهذا تبحث عن سياق تطلق فيه هذه الإمكانات. فالأمر إذن معكوس. فبدلا من أن نقول إن الشعوب العربية غير جاهزة، علينا أن نقول إنها تهاجر وترحل وتُقمع وتُسجن لأنها لا تجد الديمقراطية، ولأنها لا تجد أرض الأمان والأمل لتحلق وتزدهر وتستعرض قدراتها. ولذلك فإن الديمقراطية ليست ذاك الاختراع الذي لن تطوله شعوبنا، ولكن هو السياق الذي لم تعد شعوب المنطقة قادرة أن تعيش في غيره. والذي أصبح ضرورة ملحة. فإنسان المنطقة لم يعد قادرا أن يعيش إنسانيته بغض النظر عن خلفيته العرقية أو الدينية إن لم يكن قادرا على تحقيق ذاته كفرد. وهذا لا يمكن أن يحدث بدون تحقيق أدنى شروط الأمان الإنساني والحريات الرئيسية التي صار متعارفا عليها عالميا. نعم أنا واحدة من هؤلاء المندسين المشاغبين الذين يؤمنون بأننا جاهزون للحرية والديمقراطية. وأقف بكل فخر في الصف الخلفي لكل الذين يقال عنهم إنهم لا يصفون بالدور، أو في مكان يسمحوا لي به في ذاك الخط المزدحم. نعم، ولي الشرف بأن أقف في خانة واحدة مع كل هذه الفئات الرائعة من الشباب والتي ينعتها كهنة الثقافة الغابرة بالحثالات والمهرجين. أنا أعرف من هم. إنهم أهلي وأصدقائي، وأقربائي، ومعارفي. وكم رأيت منهم رقيا وحضارة يتطلب تعاميا كليا إن أردت أن أنعتهم بالقصور. هم الذين رأيناهم ينظفون ساحة التحرير في القاهرة وحماة، ويهتفون بأحلى الألحان في صنعاء. وكم رأيت الكثير منهم يأتي إلى الغرب ليحقق نفسه، وكم رأيت منهم يسجنون في أوطانهم. وها نحن نراهم يُقتلون وتهدر دماؤهم وإنسانيتهم وأجسادهم وما زالوا يقفون صامدين. كل منا يظن أن أهله فقط اللطفاء وبقية الناس حقراء. أن أصدقاءه فقط الأنقياء بينما البقية أنجاس. ولكن من هم هؤلاء quot;الآخرونquot; الذي لا يستحقون حتى أبسط حقوق الإنسان؟ أليس البقية أصدقاء وأقرباء أحد أيضا؟ أو كما يسألنا كل دكتاتور باستخاف؟ من أنتم، وكأننا كائنات مجهولة. فتارة ينعتونا بأنا جرذان، وأخرى بأنا جراثيم. ولكن نحن كل هؤلاء الأقرباء والأصدقاء واللطفاء، حتى ولو لم ينتبه أحدهم إلى quot;الواقعquot; وعاش حبيس خيالاته عن quot;المتخلفين.quot; مهما اختلفت الأوصاف والألقاب وتغيرت موجات الموضة في آخر صرعة إتهامية، فنحن من نسيتم أنه عملاق حكيم ظل صامتا لأزمان طويلية في قمقم في نهاية كهف مظلم. آه، كم لا أحب الاستنتاج القياسي! هذا هوالمنطق الذي أعاق البشرية لوقت طويل حتى اكتشفنا المنهج الاستقرائي التجريبي العلمي. ولكن ما يحدث أننا ربما بحكم تعودنا على المنطق الاستنتاجي لآلاف السنين والذي يعتمد على كليات تعميمية ليصل في النهاية لاستنتاجات خاطئة هو ما نرتكز عليه في أغلب أحاديثنا. ولذا يقول أحدهم إن الغرب أخذ معه مئات السنين لتطوير وتأسيس الديمقراطية، وهذا يعني أن الديمقراطية تأخذ مئات السنين، وهذا يعني أن نعود لبوتنا وننتظر مئات السنين حتى نصبح مؤهلين لمرحلة الديمقراطية. وبالتالي إذا كنا سنصبح ديمقراطيين، فحتما لن يكون هذا قبل قرون. منطق ممتاز على الورق، ويبدو مليئا بالعقلانية والواقعية والبراهين التاريخية والحسابات الرياضية. ولكن إذا قبلنا أن نزعج أنفسنا للحظة صغيرة وقلبنا من المنطق الاستنتاجي القياسي إلى المنهج الاستقرائي، أي مراقبة ما يحدث فعلا حولنا وأقلقنا أنفسنا بملاحظة الجزئيات بدون ان تعمينا أفكارنا السابقة، لاكتشفنا أن أي اكتشاف مهما أخذ من الوقت لتطويره في أمة ما يصير ملكا للبشرية قبل أن تقوم من مقامك، أو أحيانا قبل أن يرتد إليك طرفك. لا داعي لأن ننتظر مئات السنين لنطور كمبيوترا عربيا. بل علوم الكمبيوتر والحاسوب ذخر لنا جميعا وجزء من العقل الجمعي البشري. وبالتالي فإن قدرة مجتمعات استطاعت أن تتوصل إلى تبادل مواقع السلطة بدون إراقة دماء هو ذخر لنا جميعا. ما يكتشفه فرد أو مجتمع هو هبة للإنسانية كلها. أي أن الديمقراطية جزء من التراث الجمعي البشري، ولا داعي لانتظار مئات السنين لتطويرها من الصفر. بل إن الانضباط الرهيب الذي تظهره المجتمعات العربية الشابة أمام سلطاتها القمعية والتي شاخت رغم كل عمليات التجميل يؤكد أن العالم العربي مثل شبابه الذين يستعملون ويشاركون في تطوير التكنولوجيا لن يستوردوا الديمقراطية الغربية بسذاجة، بل صاروا مؤهلين لتطويرها وتحديثها أيضا. وأكثر من ذلك، فالمنطقة تتأهل لمساعدة الغرب في تعميق القيم الديمقراطية في العالم، وأخذ يدها لإنقاذها من نظرتها الفوقية لبقية العالم. فالعالم العربي يثبت يوما بعد يوم أنه يتجهز ليقدم تطويرات وتحديثات لإنزال الدروس الأخلاقية والإنسانية على الهارد الديسك الغربي، والذي حقق الديمقراطية داخليا بينما كرس الدكتاتورية عالميا وأنزل فيروسات تدميرية في العديد من البرامج والمشاريع لشعوب بأكملها. لا تقولوا لي إن شعوبنا تحتاج مئات السنين لتحقق الديمقراطية. وإن كنتم تعتبرون أن ما أقوله خيال ومثاليات فأحب أن أقول لكم إن الذي قد حققه وطوره الآخرون قبلنا يسمى quot;واقعاquot; وليس مثاليات. وأن المثالية والأحلام تطلق على أشياء لم يرها البشر بعد. فعيب وعار أن نطلق كلمة أحلام ومثاليات على أشياء صارت واقعا معاشا في مجتمعات أخرى. وإن كنتم تعتبرون هذا رومانسية حالمة وخروجا عن الواقع، فعلينا أن نعرف أن شبان المنطقة هم الذين يعيشون الواقع بعيدا عن خيالات معيقة ما أنزل الله بها من سلطان، ويظهرون شفاءا متسارعا من كراهية الذات وتحقير النفس، ولذا فهم يتأهلون بسرعات ضوئية وإلكترونية لمنافسة الأمم وقيادتها.
لا يستطيع السوري أن يقود سيارة، ولا أن يستعمل تلفون خلوي. وأما أن يجلس على الكمبيوتر، فانسى كليا. طبعا، السوري يحتاج أقلها خمسمائة عام ليعرف أصلا ما معنى كلمة سيارة، ويحتاج لمئات السنين ليترجم كلمة كمبيوتر إلى حاسوب، وألف سنة ليعرف كيف يكبس على لوحة مفايتح إلكترونية. هيك السوري، من يوم يومه!
لو سمعتم هذا الكلام، ألن تستغربوا، وتحدقوا بإندهاش؟ ألن تتعجبوا من عدم quot;واقعيةquot; صاحبه وإنغلاق حواسه عن مراقبة الحقائق البسيطة؟ فها هم السوريون يقودون السيارات، وكثير من شباننا يتوجه إلى علوم الكمبيوتر من عقود عديدة ويشارك بأعداد متزايدة في ازدهار وتطوير التكنولوجيا في العالم الغربي (وأنا هنا لا أتحدث عن ستيفن جوب والذي والده البيولوجي من حمص ndash;وإنما عن الشباب والشابات السوريين ndash;وطبعا العرب-- الذين نشأوا وترعرعوا ودرسوا في سوريا قبل أن يهاجروا ويرحلوا مجبورين إما بسبب الأمن أو الأماني). انظروا حولكم وراقبوا المراهقين السوريين، وهم يبعثون رسائل نصية على هواتفهم الخلوية، ويتواصلون على الفيس بوك، ويعملون تويتر. تكاد عيوننا لا تحلق سرعتهم. وكلنا نعرف أن كثيرا منهم يتوجه للدراسة والتأهل للمشاركة والاسهام بتطوير وتحديث كل ما نراه حولنا من اتصالات وتكنولوجيا. بل إن القمع الالكتروني الشنيع في سوريا يخرج جيلا من الشباب السوري الذي يفوق في مناوراته الإلكترونية أقرانه في بلاد أخرى.
هل رأيتم طيارا سوريا يقال له، لا، لا، أنت من ثقافة عتيقة ولن تستيطع أن تطير في الهواء؟ ماذا ستقولون لو سمعتم هذا؟ عنصرية! أليس كذلك؟
لكن هناك كلام عنصري يقال بيننا يشابه هذا الكلام، ولا نستهجنه. بل نكرسه، ويقوم كثير من السوريين بترديده وكأنه نشيد حماة الديار. فلو سمعتم أن السوريين غير مستعدين للديمقراطية، ويحتاجون لألف سنة أخرى ليفهموا معناها، وأن العرب بشكل عام ثقافتهم عاطفية وعنيفة وعدوانيون بطبيعتهم، وأنهم لن يعرفوا أن يتحاوروا بتهذيب منضبط، لربما سكتّم. وهو ليس لأنه يعكس أي واقع وإنما من كثرة ترداده تعودته آذانكم ودخل في الخطاب المحلي. وللأسف استبطنه كثير من السوريين حتى صاروا يجيدون فنون إغتيال الإنسانية في أنفسهم وحضارتهم، وكأن الإنسان في العالم العربي يفتقد لعضو أو حاسة تتواجد في آخرين. هذا النوع من التفكير والخطاب، لا يقل احتقارا وعنصرية واستخفافا عن أي مستشرق عنصري. ما أسمعه من بعض السوريين يفوق، بشكل يحزنني، بمرات كثيرة ما أسمعه من أكثر الناس عداءا لنا. فعلى الأقل، حتى لا يُتهم هؤلاء بالعنصرية، يغلفون بعض طعناتهم بطلاء لبق.
لماذا نتقبل أن نرى السوري (وأي إنسان في المنطقة) يستعمل آخر الأدوات التكنولوجية بينما نستهجن إن طالب بالحرية والديمقراطية؟ فليس من الغريب على الأنظمة الحاكمة تمرير هذه الأوصاف لإبقاء الوصاية والتسلط على شعوب بأكملها. ولكن الغريب عندما تراهها من أناس يدعون الفخر بعروبتهم ومحبتهم لشعوب المنطقة ثم تلمحهم يستديرون ليغتالوا الثقافة العربية وإمكاناتها. وعندها تتساءل عن سبب فقدان الإيمان رغم أن الواقع يفقأ العين بقدرة الإنسان في المنطقة كلها على التأقلم.
ربما ما أجده مثل الصفعة على الخد الإنساني هو عندما يقف عربي يعيش في الغرب، قدم الغالي والرخيص لينقذ عائلته ويأتي بها إلى الغرب، ليقول أمامي رافعا أنفه: حلوة الديمقراطية يا عفراء. حلوة كتير. وأحلامك حلوة وخيالية ووردية، بس شعبنا ما رح يفهم ولا يقدر يعيش بالديمقراطية لخمسمائة سنة ثانية. آخ، وثلاثمائة مليون آخ من صفعة دفنت شعوبا بأكملها، بشبابها، بمواهبها، بفنونها، بكل إمكاناتنا وجمالياتها، وتحرقاتها ببضعة كلمات متأنفة. هولوكوست لغوي. بصفعة واحدة مسح شعوبا بأكملها. ما تعريف الدكتاتورية إن لم يكن هذا بالذات، الاستكبار على الآخرين ونعتهم بالقصور؟ طبعا هو أنقذ أولاده. وهي أيضا، تلك التي ترى أن الديمقراطية بسبب تخلف العرب لن تجلب إلا الفوضى، لا تريد أن تخرب إجازتها بسبب quot;أحلام ورديةquot; يتطلع إليها هؤلاء المتخلفون، ولو أنها ما تزال تراهم كأقارب بحكم القدر، وهي تحبهم، ولكن حلوة البلد رغم ما يحدث لمواطنيها. خليها بأمان للمصطافين والسواح. ثم يقف آخر، ويقول تريدون ديمقراطية؟ كيف تريدونها وهؤلاء لا يعرفون أن يصفوا بالدور؟ أو أحلى واحدة سمعتها من قريب هو أنه يخرج أحدهم لمظاهرات يطالب بالحرية والديمقراطية بينما يضرب زوجته في المنزل. وهل كانت هي المراقبة الدولية الوحيدة التي سمحوا لها بالمراقبة والتحقيق؟ ألم يخطر على بالها أنه ربما الذي يضرب زوجته هو الذي يضرب المتظاهرين، وأن الذين يخرجون بانضباط ولا يردون الأذية هم الذين كفروا بالضرب والبسطار العسكري؟
السوريون جاهزون للديمقراطية وهم أحق الناس بها وأهلها بعد الذي اثبتوه في الشهور الماضية. وكذلك شعوب المنطقة التي ترينا تسارع إرتفاع درجات وعي السلمية والحرية. هؤلاء الشبان الذين يتلقون الرصاص ويسمعون أبشع الأكاذيب بحقهم ويسمعون صفعات البعض منا على وجه الكرامة العربية والإنسانية. ورغم ذلك يتابعون بروح مرحة. حرية وبس!
ولهذا سيقف آخر، ويقول، نحتاج لوقت طويل لايقاظ الناس. سيقول، ماذا تظنين حدث في الغرب؟ أتظنين أنهم حققوا الديمقراطية والحريات بأسابيع وأشهر؟ وسيرد على نفسه، لقد أخذت منهم مئات السنين!
- آخر تحديث :
التعليقات