لاشك ان للبيئة دورا رياديا في تكوين ثقافة الشعوب فهي تفرض طبائعها على من حولها وبيئتنا الصحراوية القاسية فرضت علينا سلوكيات جافة ونزعة لاستخدام العنف لتحقيق غاياتنا، وتعزى قسوة البيئة اما لشحة مواردها أوصعوبة جغرافيتها أو شدة مناخها او بعض هذه الاسباب او كلها مجتمعة.

التاريخ، كما يفسره الشيوعيون quot;هو صراع الانسان الدائم مع الطبيعةquot; وعندما يعجز الانسان عن تطويع طبيعته فانها تطوعه، او بكلمة اخرى لابد له ان يتاقلم معها ومن الاقوام من انتصر على الطبيعة وشذبها او سخرها لخدمته ومنهم من انتصرت عليه الطبيعية فقبل شروطها وتاقلم معها.

فرضت البيئة على العرب (وكلمة العرب حسب ابن خلدون، تعني القوم كثيري الترحال) طريقة عيشهم وتركت بصماتها الواضحة في بلورة فلسفتهم الاجتماعية والسياسية والتي تجسدت في مفهوم القبيلة العربية.

جسدت القبيلة المفهوم البدائي لمعنى الدولة المعاصر فكانت مااستطيع تسميتها بquot;الدولة الجوالةquot; لان شحة المصادر وفقدان الامن في صحراء مترامية الاطراف كانت تفرض على افراد هذه quot;الدولةquot; ان يتعاونوا في الحرب والسلم والترحال بحثا عن الماء والعشب او هربا من قبيلة اقوى وكنتيجة لذلك لم يطمع العرب بشيء من متاع الدنيا غير خيامهم وابلهم ومتاعهم وماخف حمله وغلا ثمنه من نقود او مجوهرات.

طورت دولة القبيلة قوانينها (سواني) وانتخبت رئيسها (الشيخ) ولشيخ القبيلة كان مستشارون ولكل قبيلة فارسها الذي كان بمثابة القائد العام للقوات المسلحة وquot;فريضهاquot; الذي يمثل القاضي. يحتكم افراد القبيلة عند اختلافهم الى فريضها أو شيخها وفي بعض القبائل يجمع الشيخ بين رئاسة القبيلة quot;والفراضةquot; وعندما يغزون او يتعرضون للغزو يأتمرون بأمر فارسها. يقبلون لجوء افراد من قبائل اخرى ويجيرون من يستجير بهم ممن يقع عليهم حيف عشائرهم اوممن تقطعت بهم السبل، يقيمون احلافا مع قبائل مجاورة من اجل هدف مشترك او لصد اعتداءات القبائل الاقوى او من اجل غزو مواقع حصينة.

على حدود العرب الشرقية حيث الماء والزراعة ووفرة المصادر كانت هناك دولة المدينة المستقرة في بلاد مابين النهرين ورغم تطور هذه المدن وقوة تحصينها الا ان القبائل العربية (أو الآمورية) عادة ماكانت تنجح في غزوها ونهب ماتستطيع نهبه من ثرواتها عندما يشتد القحط في صحرائهم.

بقي النظام القبلي على حاله ولم يتغير بمرور آلاف السنين في جزيرة العرب باستثناء تغيير طفيف حصل في الأقاليم التي امتد اليها التوسع الاسلامي (العراق والشام) فآثرت بعض القبائل الترحال القصير كي لاتبعد كثيرا عن مصادر المياه بينما قررت قبائل اخرى الاستقرار قرب مصادر المياه وامتهنت الزراعة، فمن استمر على حياته في الصحراء فهو بدوي اما الذي آثر البقاء بالقرب من مصادر الماء فصار رعوي (من الرعاة) اما من هجر منهم البداوة وسكن القرى واشتغل بالزراعة فصار قروي.

اذن صارت لدينا ثلاثة انواع من القبائل: القبيلة البدوية -موضوعة البحث- وهي القبيلة الاصلية والتي حافظت على تقاليدها وطرق عيشها. القبيلة الرعوية. وهي القبيلة التي امتهن افرادها تربية ورعي الماشية وهؤلاء استقروا بالقرب من الاراضي الخصبة ومصادر المياه وتقلصت على اثره مساحات تنقلهم. القبيلة القروية وهي التي سكن افرادها القرى الواقعة بالقرب من ضفاف الانهار وامتهنوا الزراعة وتربية الحيوانات.

طرأت تغييرات اجتماعية طفيفة على القبيلتين الرعوية والقرويه لكن لم تتغير طرق حياة وعيش القبيلة البدوية حتى تم اكتشاف النفط في الربع الاول من القرن العشرين في صحراء العرب والذي دشن نهاية التنقل الدائم لدولة القبيلة لانه عوض عن شحة الموارد ووظف التكنولوجيا لتهذيب البيئة وتلطيف قسوتها فتأسست نتيجة لذلك مجتمعات مدنية مستقرة ومتحضرة.

تهذيب التكنولوجيا للصحراء واستثمار خيراتها وفر لرجال القبائل عائدات كافية أغنتهم عن مهنة الغزو -التي كانوا مضظرين لممارستها رغم كل مخاطرها- ووفرت لهم فرص الاختلاط مع المجتمعات المدنية العريقة فتأثرت تقاليد القبيلة بتقاليد هذه المجتمعات واصبحت أقل تطرفا واكثر استقرارا ومدنية وتاليا اكثر تعلقا بالحياة.

بعد هزيمة الدولة العثمانية (التي كانت ضمن دول المحور) في الحرب العالمية الاولى قسمت الدول الأوربية المنتصرة في الحرب (دول التحالف) المستعمرات العثمانية (نخص هنا الولايات التي تقطنها غالبية عربية) فيما بينها فرسمت الحدود واسست دولا ونصبت لها حكومات دعمتها بنظم اقتصادية وسياسية تحاكي تلك التي لديها لتلحقها بquot;النظام السياسي العالمي الجديدquot;.

أطلق التاريخ العربي الحديث على تلك المرحلة تسمية quot;مرحلة الاستعمارquot; ورغم نشوء طبقة ثقافية عربية بهرتها الافكار الغربية التي أتى بها quot;الاستعمارquot; فتأثرت بها وحاولت استيعابها ضمن نظم سياسية شبيهة بعد رحيل quot;القوى المستعمرهquot; لكن هذه الحكومات انهارت او فشلت أو في طريقها الى الانهيار لسبب بسيط هو انها اعتمدت على افكار غربية ذات مناشيء غريبة ساهمت في بلورتها بيئة غريبة وتطورات اجتماعية لاقوام أغراب.

فشلت تقريبا كل الحكومات التي استمدت قواعدها الآيديولوجيه من افكار وتجارب مجتمعات غربية ولم تنجح الا الحكومات التي استوعبت مفاهيم وقيم القبيلة العربية كالانظمة الملكية والاميرية و المشايخ لذا فرضت هذه المفردات نفسها على القاموس السياسي العالمي على اعتبارها نظم سياسية عربية خصوصا النظامان الاميري والمشايخي.

ولعل اكتشاف النفط وجغرافية الامارات العربية المتحدة وتكونها من سبع جزر والتركيبة الاجتماعية العشائرية لشعبها وحكمة المرحوم الشيخ زايد، كل هذه الاسباب مجتمعة بلورت نظاما عربيا سياسيا اتحاديا نجح في مزاوجة مفاهيم القبيلة مع مفاهيم عالمية مطلقة في العدالة والحقوق لينتج لنا النظام السياسي الاماراتي الحالي وهو النظام السياسي الوحيد الذي يمكن ان يقال عنه انه نظام سياسي عربي أصيل.

طبعا ثمة من يؤاخذ الامارات على التمييز ضد غير العرب لكن مثلما قال تشرشل عن الديمقراطية (الديمقراطية أسوأ نظام حكم باستثناء نظم الحكم الاخرى التي تطبق بين فترة واخرى). ويمكن تطبيق هذه المقولة نظام حكم الامارات ونظم الدول العربية الاخرى.

[email protected]