عام على ثورة 25 يناير : هل خرج الاسلاميون من عباءة سيد قطب؟

شكل فوز الحركات الاسلامية بالغالبية البرلمانية في مصر عقب الثورة قلقًا متناميا لدى النخب الليبرالية والعلمانية، فحزب الحرية والعدالة المنبثق عن حركة الاخوان المسلمين علاوة على حزب النور المنبثق عن التيار السلفي يتبنيان الفكر الاسلامي كركيزة أساسية للبنية التنظيمية، وعلى الرغم من أن سعد الكتاتنى، الأمين العام للغالبية النيابية والفائز برئاسة مجلس الشعب قد أعلن عن ان الفترة المقبلة ستكون ممثلة لكل التيارات الحزبية الموجودة فى البرلمان ولن يستأثر أى حزب ولا أى فصيل بإدارة غيره، ألا ان الفكر التداولي والعقلية التشاركية لا تكتمل بمجرد quot;الوعودquot; مالم ترافقها بنية فكرية تؤسس للتشارك الفعلي وتُبعد منطق الاستئثار وتؤسس لقواعد شعبية تؤمن بضرورة التداول مُحدثة قفزة بالوعي والتطوير لصالح بناء دولة مدنية بكل ما تعني الكلمة من معنى.

خوف الليبرالين والعلمانيين وغيرهم مبرر دون شك كون ان التطور الذي طرأ على الخطاب التطميني المعلن quot;للحركات الاسلامية quot; لم يرافقه قفزة على مستوى الفكر البنيوي المؤسس للخطاب الرسمي على الرغم من ان حركة الاخوان المسلمين سعت خلال الأعوام المنصرمة على تبني القيم الانسانية والاجتماعية واستبعدت العمل المسلح وحاولت ان تنآى بنفسها عن العنف كما تم الاعلان اكثر من مرة عن اسقاطها لمشروع quot;اقامة دولة اسلامية quot; التي تبنته اواسط القرن الماضي ؛ بيد انها لازالت تعتمد بشكل اساسي ومباشر على أيديولوجية منغلقة التي تشكل العامل الرئيس لكل سلوك إقصائي.

ولعل التحدي الأبرز لهذه الحركات سواء فازت بالاغلبية ام لا، ليس العمل على اثبات مشاركة الآخرين والنهوض بالمؤسسات وحسب بل الأهم من ذلك كله تطوير خطاب نهضوي يتلائم مع طبيعة العصر، واننا نجد من الأهمية بمكان إعادة إلقاء الضوء مجددا على البنية الفكرية التأسيسية من الناحية التاريخية لهذه الحركات ليس من أجل quot;الادانة quot; بل من أجل حث منظريها على خطورة الابقاء على البنى المؤدلجة التي من شأنها ان تؤسس الى قمع جديد مقنع يمارس تحت شعار ديموقراطي لان الفكر المؤدلج الكامن ممكن ان يشكل مخزون قابل للانفجار في اي وقت وستنعكس آثاره السلبية على مكتسبات الثورة ليقع الشعب مجددا فريسة استبداد جديد.

من خطاب النهضة إلى خطاب حركات الاسلام السياسي:
شكّل محمد رشيد رضا لحظة تحوّل مفصليّة، في مسار الفكر الاسلامي، والتوجّه من خطاب النهضة الاصلاحي إلى الخطاب الاسلامي المعاصر، الذي تجلّت فيه النزعة الانكماشية التي طرأت على الأجواء الإسلامية [1] في معظم الدول العربية والاسلامية.

والسبب يعود بالدرجة الأولى إلى اختلال العلاقة مع الدول الطالعة وقتها، علاوة على التأزم الثقافي والسياسي الذي واجه الاصلاحيين في تصدّيهم للاستعمار منذ ما يقارب قرن مضى، الأمر الذي ساهم في تهيئة الأجواء لبروز الفكر المؤسس لحركات الإسلام السياسي.

والمقصود بحركات الإسلام السياسي، تلك التي تصرّح وتسعى لاقامة دولة quot;إسلاميةquot;،- مع العلم ان الخطاب الحالي المعلن اسقط هذا المطلب - وتمتلك البنى التأسيسية التنظيمية لذلك، و لها قواعد جماهرية شعبيّة مؤيدة لمشروعها، وإن اختلف حجم هذا التأييد وفعاليته من مكان لآخر. وقد استطاعت هذه الحركات أن تحوّل الدين من وظائفه الأخلاقية والروحية الى دور سياسي برغماتي فاعل عبرترجمة أطروحات أيديولوجيّة معارضة للأنظمة الحاكمة التي بغالبتها فاسدة وقامعة وديكتاتورية،الأمر الذي أدّى الى نجاح تلك الحركات في الأواسط الشعبية والنقابية والمهنية. ولعل فوز الحرية والعدالة الآن في برلمان 2012 هو ثمرة هذا العمل الشعبي الدؤوب طيلة نصف قرن.

الإنسان في أطروحة quot;الحاكمية quot; :
استمدت الحركات الاسلامية خطابها الأيديولوجي والبنى الأساسية له، من الفكر السلفي في عصور الانحطاط، لقد استدعت الطوباوي والمثالي من خلال مقولة quot;الحاكمية quot; التي تعني الاحتكام لله من خلال تطبيق الشريعة الاسلامية في كل مناحي حياة الانسان،وهذا الاحتكام لا يكون الا عبر الاستناد الى القرآن والسنة،الأمر الذي أدّى الى استبعاد أي إنسان لا يتحلّى بتلك المعايير،مما أوقع ممثلي هذا المشروع في فتاوى التكفير واستحلال الدم والتفريق بين المرء وزوجه.

وتعود فكرة النظام الكامل هذا الذي رأسه الحاكمية وهدفه تطبيق الشريعة الإسلامية [2]، إلى الخمسينيات من القرن العشرين على يد أبى الأعلى المودودي زعيم quot; الجماعة الإسلاميةquot; في باكستان، ثم في مصر أوائل الستينيات على يد سيد قطب الذي يعتبر أحد أبرز مفكري quot;الإخوان المسلمين quot;.

لقد استخلص سيد قطب مفهومه عن الانسان من الواقع وحوّله الى نظام فكري مطلق قاطع، فمصدر المعرفة النهائي عنده هو الله تعالى، وجوهر الله وصفاته لا يمكن التوصل إليهما أو فهمهما عن طريق الفكر الإنساني، ومعرفة الإنسان هي للحقائق، لذلك فإنه يقول باستحالة المعرفة عن طريق الفلسفة لأنها بنظره فرع المعرفة، كما أن هناك أجزاء من الطبيعة لا يمكن للفكر الإنساني الاطلاع عليها، لان فهم الإنسان محدود بالطبيعة، ودور العقل هو وسيلة التلقي والفهم والتأمل من أجل التوصل إلي حقيقة ما هو موجود، فالو سائلية هي أساسية في فكر سيد قطب، لذلك عند عدم وجود نص قرآني في موضوع معين فانه يعود إلى فائدة الأفكار من أجل التوصل إلى صحتها أو عدمها، فالأفكار عنده ليست مهمة بذاتها بل بنفعها، والقواعد هي تقديرات تجريبية، والإسلام عنده ليس شعائر دينية أو دعوة أخلاقية أو مجرد نظام حكم أو نظام اقتصادي hellip;hellip; فهي كلها أوجه للإسلام وليست الإسلام كله، فجوهر الإسلام هو مفهومه للحياة وللكون، والذي يشكل الأرضية لكل اوجه الإسلام، وعليه فان النظام السياسي الذي يجب أن يحكم الحياة الإنسانية يتوقف في صحته ومصداقيته على التفسير الشامل للمفهوم الإسلامي وقيمه والذي يتميز بسبعة خصائص أهمها التوحيد، ويعتبر انه من دواعي التوحيد وضروراته اتباع المنهج إلهي المستمد من عقيدة إلهيه،وهو المنهج الوحيد والصحيح،وما سواه فهي أنظمة وضعية من صنع البشر،والمجتمعات هذه هي مجتمعات quot; جاهلية quot;، وعليه فان هذه المناهج الوضعية تتعدى على الخاصية الألوهية، وتمسّ توحيد البشر فهؤلاء الذين يستمدون منهجهم من ملك أو أمير أو عشيرة أو شعب فهم ليسوا أتباع دين بل أتباع دين الملك أو العشيرة أو الشعب [3] وهم quot; طواغيت quot; ويعيشون في quot;جاهليةquot;[4]، والخضوع للأنظمة هو إشراك بالله إذا ناقض الرسالة الإلهية، وبناء على ذلك فلا يمكن للمسلم أن يكون مسلما وهو يتبع منهج غير إسلامي في حياته، فالمنهج هو الدين.

النزعة الاقصائية والانكماشية نتيجة مشاريع الهيمنة:
إن أطروحة quot;الحاكمية quot; أدت الى استبعاد المسلم العادي فكيف بغير المسلم؟ فهذا الخطاب يتمسك أثناء طرح قضاياه بوضع حدّ حاسم بين quot;الإنسان المسلم quot; و quot;الانسان غير المسلم quot;، كما أنّ هذه المقولة تحصر مفهوم quot;الانسان quot; في بُعدٍ عنصريٍّ ضيّق، لأن الانسان في تلك الأطروحة لا يكتسب انسانيته إلا من خلال الانتماء لهذا الفكر الذي يستبعد وينفي كلّ البشر، فينكمش مفهوم الانسان في خطاب الاسلام السياسي المعاصر ويتضاءل لينحصر في quot;المسلم quot;، المنطوي تحت جناح تأويلات النفع السياسي للدين والعقيدة، فتتباعد المسافات، وتتسع الهوّة بين quot;مثالية quot; النصوص الدينية من جهة، وبين quot; واقع quot; الفكر الديني بشقيه الرسمي والمعارض من جهة أخرى.

ثم جاءت الظروف السياسية والعسكرية والاقليمية لتكرس نزعة الانكماش العنصري هذه بسبب التدخل الغربي الغير عادل الذي يرعى مصالحه بالدرجة الاولى، من خلال الاحتلال العسكري المباشر او من خلال فرض حكومات ديكتاتورية وانظمة شمولية قامعة على الشعوب باسم quot;حقوق الانسانquot;، حتى استطاعت الثورات العربية المتعاقبة منذ مطلع 2011 من الاطاحة ببعض هذه الديكتاتوريات والحكومات المترهلة.

ماذا بعد؟
اليوم وفي ذكرى العام الأول على اسقاط حسني مبارك ثمة من يرى ان بنية القمع لازالت متجذّرة في كافة مؤسسات الدولة وان على الحكومات الجديدة العمل الجاد وهي مطالبة اليوم واكثر من اي وقت مضى بتكريس قضية الدفاع عن الانسان وحقوقه والحريات العامة وجعلها القضية الرئيسية في خطابه والعمل الدؤوب على احداث نهضة ا من خلال تحرير الفكر من كل تبعية، لأنه عند مناقشة القضايا المجتمعية المنبثقة عن الرؤية التي يحددها المجتمع تجاه الكائن الانساني وحقوقه وواجباته، غالبا ما تذوب المشكلات الأساسية في سياق التأويلات المؤدلجة النفعية لنص الخطاب الديني. فالتحرر الإنساني من الارتهان الخارجي والقمع الداخلي مرتبط وقبل كل شيئ بالتحرر الاجتماعي والفكري العام.
فهل خرجت الحركات الاسلامية من عباءة سيد قطب ؟ وهل سيتوجه الاسلاميون الجدد نحو التأسيس لخطاب علماني يؤسس لدولة مدنية ؟ وهل ستكون المرحلة المقبلة آنة لانبعاث فكر نهضوي؟
هذا ما نتمناه! وان غدا لناظره قريب.

http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/
[1] رضوان السيد : quot; الفكر الإسلامي الحديث، أصوله واتجاهاته و مآلاته quot;، محاضرات جامعية ألقاها في المعهد العالي للدراسات الإسلامية، بيروت، شتاء، 1999.
[2] فهمي هويدي : quot; الحاكمية بين أهل الدعوة وأهل القانون quot; مبحث من كتاب : ندوة التيارات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي، طرابلس، 1987 ص 28.
[3] سيد قطب : quot; المستقبل لهذا الدين quot;، القاهرة، مكتبة وهبة، 1965 ص ص.12 ndash; 14.
[4] سيد قطب : quot; معالم في الطريق quot; دار الشروق، مصر، القاهرة، ص ص.190 ndash;191.