شعبان البليد.. حكاية حكاها لي والدي رحمه الله قبل ما يزيد عن ربع قرن.. تروي أن شعبانا كان فتا بليدا أبلها.. طلبت منه أمه ذات يوم أن يذهب إلي بيت جدته ويعطيها خروفا من الحظيرة.. فحمل شعبان الخروف علي يديه طوال الطريق إلي جدته! وحين وصل كان قد خارت كل قواه ndash; انقطع حيله ndash; فأشفقت جدته علي حاله وقالت له يا بني ما الذي حملك علي حمل الخروف؟! هلا ربطته بحبل؟! فأجابها وهو في غاية الأسي لعدم تقديرها لمجهوداته الخارقة: أهذا ذنبي أن حملته لك طوال هذا الطريق خشية أن يضيع؟! في المرة القادمه سأربطه بحبل.

وفي المرة التالية أرسلت معه والدته ذكرا من البط إلي جدته؛ فما كان من شعبان إلا أن ربطه بحبل، ثم حين وصل ودق باب جدته وفتحت الباب ووجدت ذكر البط وقد فاضت روحه إلي باريها! فقالت له يا بني ما الذي حملك علي هذا؟ هلا حملته ؟! فأجابها مندهشا: ألست أنت من قلتِ لي اربطه بحبل؟! وهكذا كان دائما حال شعبان البليد.. يظن أنه علي حق رغم رفضه التام إعمال عقله لما يفرضه واقع الحال.

هذه القصة تنطبق علي رجال مجلسنا العسكري الموقّر وجهازنا الشرطي المحترم. فيوما قال لهم الثوار: نرفض تدخلكم لفض أي اعتصام بميدان التحرير أو في أي مكان بمصر بالقوة.. وحين سيطر البلطجية على الميدان.. لم يتدخلو لأن الثوار طلبوا منهم هذا!

فقبل ثلاثة أيام عقدت العزم أن أكتب مقالتي هذه إلي مجلسنا العسكري الموقّر وجهاز شرطتنا، ولكن لم يسعفن الوقت لذلك إلا اليوم. حيث شاءت الأقدار أن أزور ميدان التحرير وأتفحصه نهارا وليلا، خاصة وقد اقترب الإحتفاء بالذكري الأولي لثورة شباب مصر المجيدة.. في النهار وجدت ساحته وقد باتت بالفعل مثل كافتريا ورصيفا.. ففي الكافتريا يشربون السيجار والشاي وباقي المشروبات.. وعلي الرصيف يبيعون المنتجات ndash; المضروبة ndash; إياها.

وقد يكون هذا عاديا بعض الشئ.. علي الأقل لم يكن هناك إساءة أدب تذكر؛ ولكن في الليل وفي الساعة الثامنة مساء ترجلت من الزمالك إلي التحرير لأتنسم رحيق القاهرة ليلا.. ورأيت فتاة وقد تحرش بها أحد الفتيان الذي وضح تماما حين اقتربت منه، وتفحصت ملامحه أنه ليس أكثر من بلطجي حقير.. ثم رحت مع آخرين نقترب من مشهد المشادة فإذ بعشرين من الرفاق البلطجية يحيطون بنا وبالفتاة وينصرون هذا الحقير علي الفتاة التي لم تستطع إلا الصراخ لتجمع حولها الشرفاء.. وبجهد جهيد تم إنقاذ الفتاة من هذه المزبلة.

حينها رحت أسأل نفسي ماذا جري؟ لما لا تتدخل الشرطة للقضاء علي وجود هؤلاء البلطجية؟! ورحت أسأل نفسي ماذا أكتب؟ وكيف أكتب؟ أأنضم إلي فريق القائلين بتزبيل ميدان التحرير، والذي يتخذ الكثيرون حديثهم ذريعة لتشويه الثورة، وإخافة الشعب من الإحتفائية القادمة بالخامس والعشرين من يناير؟! أم أسكت عن هذا الشرّ المستطر الذي خيّم علي إحدي أطهر البقاع بمصر اليوم؟! وهداني ربي إلي أننا كإعلاميين وصحافيين ونخب بحاجة إلي دقة في التناول، وتشريح عاقل للقضايا التي نقدمها للرأي العام المصري.
إن شعبان البليد له منطقه الخاص به؛ غير أن منطق شعبان البليد لا يهتم به عاقل، ولايراه أصلا، لأنه منطق غبي لفتى أحمق. وهذا الأحمق لن ينفع مداواته طالما بقي مقتنعا بمنطقه ومؤمن به. إننا بحاجة إلي التناول الحكيم للقضايا.. بحاجة إلي البصيرة النافذة التي تهدي الناس إلي سبيل الحق والعدل.

إن هذا المشهد الذي أراني إياه ربي في هذه الليلة كان بمثابة الصدمة التي دفعتني لتسطير هذه المقالة. فلطالما وضعت ربي نصب عيني، وطمعت أن أجد إجابة علي كثير من الأسئلة التي قد يسألنيها وما من جواب لها عندي! من بينها قضية ميدان التحرير وثورتنا النقية التي سعي كثيرون بقصد وبدون قصد إلي تشويهها. شباب تمكن الشياطين من تعريضهم إلي الجسلسات الكهربية القوية التي جعلتهم يصرخون طوال الوقت حتي بات مظهرهم عند العوام أنهم شباب أرعن.

بتنا متهمون بالعمالة مجددا، وبتخريب الوطن لصالح أجندات.. نفس التهم التي ألصقها الرئيس السئ السابق محمد حسني مبارك وأذنابه بنا، وكأن الأقذار نجحوا في استرجاع نفس الشخصية الوضيعة لمبارك ورجاله، الذين رأوا أن تشويه شباب مصر أرخص من تركهم للسلطة التي جثموا عليها أكثر من ثلاثين عاما!

وإذا كنا نتحدث عن التناول الحكيم فإني لن أنكر أن الميدان قبل يوم الخميس الماضي قد استوطنه البلطجية والعربجية والأرذال من البشر.. كما لن أنكر أنه وإبان أحداث محمد محمود كان في قلب الميدان متعاطو البراشيم والحب الحرام، ورأيت هذا بأم عيني. لكن إذا كنا نتحدث عن ثورة شعبية، فإننا لن نستطيع أن ننكر أن هذه الفئات موجودة في المجتمع، وأن مبارك ونظامه زرعوا في جميع فئات الشعب مفهوم الإستغلال حتي بات مذهبا وعقيدة اعتنقها المتدينون قبل الملحدين!

ومن ثم أقول قاسما بربي أن ميدان التحرير كان دائما أقساما وصفوفا.. جل هذه الأٌقسام والصفوف كانت تبحث عن الوطن الحر الذي تشيع فيه العدالة ويسود فيه القانون ويحترم فيه الإنسان. وكان البعض وما أندرهم إذا ما هدأت الأوضاع عادوا إلي ما كانوا عليه قبل الثورة، وارتكبوا ما حكي عنه البعض سعيا لتشويه الثورة والثوار ليظهرهم جميعا في ثوب المتعربدين الزنادقة!

ورفض الإعتراف بوجود هذه المظاهر المشينة بالميدان هو حمق، مثلما هو إصرار الشرطة والعسكر ترك الميدان دون تطهيره من البلطجية بمنطق شعبان البليد. ولو أنصف الثوار لاعترفوا بأنهم بشر وليسوا بملائكة ولأعلنوا استنكارهم لكل هذه المشاهد التي تجرح البيوت المصرية وتصيب أخلاق شباب الثورة في مقتل. ولو أنصف العسكر والشرطة، ولو صدقت نواياهم تجاه الثورة الشبابية لتحركوا في تصوير هذه المشاهد المسيئة، وقدموها للثوار ولطلبوا منهم المساعدة للقضاء علي هذه الذمرة التي تسئ للثورة وثوارها ولمصر كلها.

لقد كنت أرى أن الفضيحة التي طالت عسكر مصر في ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء كان يمكن ألا تحدث لو أحسنوا التصرف، ولم ينتوو أمرا سيظهره الله عن قريب أو بعيد. فمثلا فيما يخص أحداث مجلس الوزراء تحديدا، كان بإمكان العسكر الذين يحكمون بدلا من.. أسير السرير.. أن يعلنوا أمام الشعب المصري في مؤتمر صحافي أن الثوار الذين طالبوا بالعدل واحترام سيادة القانون يستحيل أن يخالفوا القانون، ويمنعوا الموظف الأول بالدولة كمال الجنزوري رئيس الوزراء من تأدية مهام وظيفته، ومنعه من دخول مقرّ عمله، ومن ثمّ يعلنوا إمهالهم لمن يرتكبون هذا الجرم ليوم أو لساعة ثم إذا ما قامت الشرطة بسحلهم بعد ذلك فلن يتعاطف معهم أحد.. لكن أن تسير الأمور وفق ما سارت عليه وفي ذاك التوقيت من ظهور نتائج المرحلة الثانية من الإنتخابات المصرية، فإن ذلك ينطوي علي شئ وإن لم ينطو.. فحالة الشك التي تخيم علي العقل الجمعي المصري، تجعل المصريين رافضين لحالة البلاهة التي تم ولم يزل يتم بها معالجة أتفه المواقف.

إني علي يقين أن هناك تحضيرات تجري علي قدم وساق من أجل الإجهاز علي الثورة الشبابية المجيدة، وبدء العدّ التنازلي لوأدها بثورة مضادة يساق لها الحمقي سوقا. ولكني أوقن أن الله الذي حمي مصر من قبل سيحميها ثانية وثالثة، وسيرد كيد الكائدين ومكر الماكرين إلي نحورهم. وأنذر من يخططون لهذه الثورة بعقاب إليم يأتيهم ممن جهلوهم أو تجاهلوهم، وهم الجيل الثاني للثورة. أنتم تمكنتم من تشويه صورة من ظهروا علي الساحة كمسئولين أو مديرين للحركة الثورية في مصر، وإيصال الشعب المصري إلي مرحلة الشك بهم، ولكن أذكّركم أن هؤلاء قبل الثورة لم يكن يعرفهم الكثيرون، وكثيرون منهم بزغ نجمهم بعد نجاح الثورة.. ولكن ثمة ثوار شاركوا وتقاسموا الثورة مع هؤلاء قبلوا البقاء في الظل لأن همهم الأول مصر ومستقبلها، ولا يعنيهم أن يكونوا علي الشاشات بقدر ما يعنيهم أن تبقي أيديهم في حديقة الثورة تحميها وترعاها.

من جديد أنذركم وأحذركم من الجيل الثاني للثورة.. فهؤلاء لن يمهلوكم ولن يرحموكم.. فإذا كان عند مبارك رصيدا سياسيا وديبلوماسيا جعل محاكمته تسير بهذا الشكل لأجل ضرورة، فأذكركم بأنكم ليس ليدكم شيئا يجعل من الإبقاء عليكم ضرورة.. ويتساوي محاكمتكم عسكريا مع محاكمتكم مدنيا، أو ميدانيا. فعاشت مصر حرّة والمجد للشهداء.. ولتحيا الثورة.