بعد سنين من استقرار الرصاصة فى أحشائه، قرر أهل المصاب اخراجها ليتخلص من الآلام التى يعانى منها. تعددت المحاولات ونجحت المحاولة الأخيرة واخرجت الرصاصة. لم ينقطع النزف الذى صاحب العملية فساءت حالة المريض وأخذت بالتدهور.

إن المصاب هو العراق، والرصاصة هى صدام حسين وحزبه، وبالرغم من مرور ما يقرب من 9 سنوات على التخلص من الدكتاتور فقد استمرت أعمال العنف وأطل وجه الطائفية القبيح فى العراق فعمت الفوضى وما يصاحبها من التفجيرات والهجمات الانتحارية بصورة لم يعرف لها العراق مثيلا من قبل، فضاعت الأرواح ودمرت الممتلكات وشح الماء والكهرباء وانشلت الخدمات. وهكذا استمر نزيف العراق لدرجة أن بعضا من أهله (العراقيين) باتوا يتمنون لو عاد صدام وحزبه.

كان العراقيون يتوقون الى تغيير الحكم الملكي الى جمهوري، خاصة بعد نجاح انقلاب الضباط المصريين وتسنم عبد الناصر الحكم فى عام 1952، وتأثير خطاباته النارية الشديد على العراقيين التى دعت الى توحيد العرب. وبدأ الناس يتململون ثم أخذوا بالتظاهر وخاصة بعد هزيمة عبد الناصر فى حرب 1956. وبذل الحكام الملكيون جهدهم فى تفرقة المتظاهرين، واضطروا الى استعمال القوة الغاشمة ضدهم فسقط الكثير من الضحايا حتى أنزلت قوات الجيش الى الشارع فهدأت الأمور على مؤقتا.

كنت واحدا من القلة الذين لا يؤمنون بالانقلابات ونؤمن بالتطور الطبيعي، فقد كانت الأمور تتحسن ونسبة المثقفين من أبناء الشعب فى تزايد مستمر والجهل فى إنحسار يدعو الى التفاؤل. تركيبة الشعب العراقي قوميا ودينيا وطائفيا لا تشجع على إسقاط النظام، إذ لابد أن يفسر البعض من أن الانقلاب جاء لمصلحة طائفة دون أخرى مما قد يؤدى الى حصول مشاكل مثل التى تحصل الآن.

على كل حال نجحت ثورة تموز وفرح بها أكثرية العراقيين، بالرغم مما حصل فى الأيام الأولى منها من مقاتل للكثيرين من العائلة المالكة ورموز العهد الملكي، وقام بعض الرعاع بأعمال يندى لها الجبين مثل سحب الجثث فى الشوارع والتمثيل بها، وغيرها من الأعمال التى تتنافى مع الدين والأخلاق.

كانت خطة الانقلاب محكمة جدا وشكلت صدمة كبرى لبريطانيا والولايات المتحدة، حيث أرسلت الأولى قواتها الخاصة (الشياطين الحمر) الى قبرص استعدادا لتأييد أي عمل معاكس للثورة. وكانت فرحة جعلت عبد الناصر يقطع زيارته الى الاتحاد السوفييتي ويعود الى القاهرة ليرسل ببرقية تهنئة الى الشعب العراقي وقادة الثورة. ثم كانت خيبة أمله الشديدة بعد أن أعلن الزعيم عبد الكريم قاسم قائد الثورة أن العراق ليس ملكا لأحد غير العراقيين، وأنهم وحدهم هم الذين يقررون مصيرهم وليس ضباط الثورة.

نجحت الثورة، ومع ولادة الجمهورية ظهر لها أعداء داخل وخارج البلد. فدول الجوار قاطبة وبدون استثناء كانوا ضدها وكل منها لها أسباب يطول بحثها فى معاداة الحكم الجديد. وفى الداخل شيوخ العشائر، وكبار الإقطاعيين الذين كان الحكم العثماني والحكم الملكي يستندان عليهم، والبعض من ضباط الجيش أخذتهم الغيرة من زملائهم الذين حصلوا على مناصب رفيعة فى الحكومة، والانشقاق الذى حصل بين ضباط الثورة، حيث أراد البعض منهم بقيادة عبد السلام عارف ضم العراق الى مصر فورا وبدون تخطيط وتنسيق. أضف الى ذلك النزاع بين الحزب الشيوعي العراقي الذى عارض الانضمام الى مصر، والأحزاب القومية مثل حزب البعث الذى لم يكن قد سمع به أحد إلا القليل من العراقيين، يؤيدهم القوميون يطالبون (بالوحدة). أضف الى ذلك كله إنقلاب الأكراد بقيادة الملا مصطفى البرزاني ضد الحكومة بعد أن سمحت له ولأتباعه الهاربين خارج العراق للعودة والمشاركة فى إعمار العراق الجديد، وتظاهروا بتأييدها الى أن سنحت لهم الفرصة فانقلبوا عليها مواصلين بذلك حرب الاستنزاف التى فرضوها على العراق حالما انتهى الحكم العثماني فى العراق عام 1917.

والظاهر أن الزعيم كان يتوقع حصول مثل هذه الانقسامات، فشكل الحكومة الجديدة قبل قيام الثورة وضم اليها شخصيات معروفة بالمهنية والوطنية، مثل محمد حديد ونزيهة الدليمي وإبراهيم كبة وغيرهم، ومع أن أغلبية الشعب كانت معه فإن قوى الغدر والخيانة من البعثيين وغيرهم من الضباط المغامرين الممولين والمدعومين من قبل بريطانيا وأمريكا وعبد الناصر باغتوه فى صبيحة 8 شباط الأسود 1963 وهو اليوم المشؤوم الذى بدأ العراق فيه مرحلة الانحدار، حيث سيطر الرعاع والأغبياء والسفلة على الحكم 40 عاما، الى أن أسقطتهم القوات الأمريكية فى 9 نيسان 2003.

بدأ فى العراق حكم جديد لم يفلح لحد الآن فى معالجة المشاكل وإعادة الاعمار للبلد المخرب بسبب تدخل رجال الدين فى أعمال الحكومة وقيام بعض البعثيين الذين انشقوا على صدام (وليس على حزب البعث) بوضع العراقيل أمام الحكومة، إضافة الى الارهابيين من قاعدة الإجرام، وتأجيج الطائفية الدينية التى هى فى حقيقتها سياسية موشحة بوشاح ديني، فدخلوا الى العراق بمعاونة البعض من أهله ارهابيون ليفجروا أنفسهم بين الناس وليقتلوا العراقيين بدون تمييز بحجة محاربة الأمريكان فقتلوا أكثر من مئة عراقي مقابل كل أمريكي قتلوه.

إضافة الى كل ذلك إغتنم بعض البعثيين القدماء وأعوانهم فرصة مابعد الانتخابات الأخيرة وطالبوا بضمهم الى الحكومة باسم (الشراكة الوطنية) وبذلك سنحت لهم فرصا أكبر لعرقلة أعمال الحكومة. ومع أنهم أطلقوا على كتلتهم إسم (القائمة العراقية) فان أفعالهم كانت وما زالت ضد مصلحة العراق وأمنه واستقلاله. فقد طالب علاوي وبقية قادة الكتلة بتدخل بريطانيا والولايات المتحدة فى شئون العراق الداخلية فى عدة مناسبات ولم يتوقفوا عن ذلك حتى اليوم.

وقبل اربعة ايام أفضى علاوي بتصريحات للقناة التلفزيونية الأمريكية (سى ان ان) يهاجم فيها الحكومة العراقية ويلوم الحكومة الأمريكية على عدم تدخلها لتهدئة الأوضاع السياسية كما قال. ومما قاله علاوي فى تصريحه ان البلاد ((ليست مستقرة ولا ديموقراطية والارهابيون عاودوا الضرب بقوة والقاعدة ناشطة بشكل واسع )). وأضاف علاوي ((ان الولايات المتحدة تتحكمل مسؤولية سياسية واخلاقية فى مساعدة البلاد على تجاوز هذه المرحلة الصعبة جدا )) داعيا الرئيس اوباما والحكومة الأمريكية الى استخدام قنواتها الدبلوماسية لاعادة (التعددية والتعقل) الى الحياة السياسية. كل هذه التصريحات وغيرها فى مغازلة أمريكا بينما العراقيون ما زالوا يحتفلون بانسحاب جيوشها من العراق.

واليوم (18/1/2012) طلع علينا علاوي بثلاث خيارات فقد ذكر صدر مطلع من داخل اجتماع القائمة العراقية قد كشف لـ[أين] اليوم ان (( زعيم القائمة العراقية أياد علاوي قدم خلال اجتماع القائمة الذي عقد اليوم في منزله ثلاثة خيارات لحل الازمة السياسية الراهنة في البلاد وهي : اما تشكيل حكومة شراكة وطنية حقيقية تشارك بها جميع الاطراف، او إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، او ان يغير التحالف الوطني رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي بمرشح آخر )). الشراكة الوطنية هى وهم وخيال، وإجراء انتخابات مبكرة ليست بمثل هذه السهولة وقد يتطلب شهورا طويلة للاعداد لها، والانتخابات الماضية جرت فى 7/3/2010 أي منذ أقل من سنتين وقد شهد بصحتها المراقبون الدوليون وباركتها القائمة العراقية نفسها، فهل الانتخابات هى لعب أطفال تكرر متى ما رغب أحدهم بها ؟ أما الخيار الثالث طلب فيه علاوي من التحالف الوطني تغيير المالكي، وهى مناورة غبية الغرض منها شق صفوف الاتحاد الوطني لاضعافه وبذلك يزداد احتمال فوز علاوي بمنصب رئاسة الوزراء المستعد للتضحية بنصف العراقيين للحصول عليه، ويدل هذا الخيار أيضا على حقده وكراهيته الشخصية للمالكي.

كنت قد كتبت فى ايلاف مقالة بعنوان : (هل نحتاج الى المظاهرات فى العراق) فى 8 شباط/فبراير 2011 انتقدت فيها المظاهرات فى العراق وبعض البلدان العربية، وانتقدنى بعض القراء بشدة، ومنهم من طلب محاكمتى بتهمة (الخيانة العظمى!!)، ولكن أنظروا اليوم لما حدث فى تونس من اضطرابات، وإلى ليبيا ومصر واليمن وما حصل ويحصل فيها من تدمير وتخريب، وجاء الدور على سورية التى يتوقع أن ينتهى حكم الحزب الواحد فيها، ولكن بأي ثمن ؟ أنا ضد كل الحكام الطغاة من أمثال بن على والقذافي وحسنى مبارك وعبد الله صالح وبشار الأسد ومن هم على شاكلتهم، وكلهم حكموا بلدانهم بالحديد والنار ولم تكن لهم رغبة فى التخلى عن كراسيهم وكأنها وقف عليهم وعلى أولادهم وأحفادهم من بعدهم، وعقولهم المتحجرة لا تستوعب التغيير الذى حصل فى العالم الديموقراطي المتمدن منذ عقود مضت، ولا يدركون أن زمن الخلفاء الذين كانوا يحصرون الخلافة بأبنائهم من بعدهم حتى ولو كانوا معتوهين.

قد تنجح الانقلابات ويطرد الطغاة، ولكن إخراج الرصاصة وحده لا ينقذ المصاب الذى قد يصاب بنزف شديد لا ينقطع فتسوء حالته وقد يموت. ان الانقلابات غير المخطط لها بعناية من قبل المواطنين المخلصين الكفوئين لن تكون ناجحة حتى وان تغير الحكام، إذ أن تغيير الحكام ليس هو الهدف، بل الهدف حرية الشعوب وإسعادها.

وختاما أقول لدولة رئيس الوزراء السيد المالكي : أننا ندرك صعوبة موقفك والأخطار المحيطة بالبلد والفوضى التى تنخر فيه، والنزاع اللا أخلاقي على المناصب، وتعاون بعض المسؤولين فى الدولة مع دول أجنبية لمصلحة تلك الدول، والفساد المستشرى فى كل دوائر الدولة، فإن لم تكن اهلا لخدمة هذا الوطن وتضرب بيد من حديد على أعمال الشغب والمشاغبين والفساد والمفسدين والارهابيين ومن يحتضنهم ويؤويهم، وتنفذ أحكام الاعدام بالمحكومين بها بدون إبطاء، فعليك، أن تتنحى عن الحكم وتسلمه لمن هو اهل له وتوافق عليه أغلبية أبناء الشعب. قد يكون الشعب العراقي صبورا ولكن (للصبر حدود).

عاطف العزي