كاتبنا الكبير الأستاذ خالد القشطيني أثبت، عبر كتاباته ونضاله وصموده عشرات السنين، أنه من أشد الديمقراطيين العلمانيين العراقيين والعرب إيمانا بحتمية انتصار الديمقراطية في الوطن العربي، مهما طال الزمن، ومهما غلا الثمن، ومهما شهدت الديمقراطية من انتكاسات وإخفاقات، سواء على أيدي حكام طغاة جبابرة، أو على أيدي معارضين ورثوهم وإقاموا على أنقاضهم حكومات جديدة تتكلم بلغة ديمقراطية مخملية ناعمة، ولكنها تتصرف بدموية همجية وقحة أشد إضرارا بالمواطن وأمنه ولقمة عيشه من كل ما سبقها من ديكتاتوريات ساقطة أو في طريقها إلى السقوط.

وأستاذنا القشطيني أدرك، وهو مصيب، أن فوز الإسلاميين في عدد من البلدان العربية لم يكن ليحدث لولا غياب الديمقراطيين الحقيقيين، وتشرذمهم وضعف أدواتهم. وهو بالتالي يدعوني، ويدعو غيري من أصدقائه ومحبيه الكثيرين إلى أن ينضموا إليه في دعوته المخلصة النزيهة لتشكيل تجمع أو تيار أو هيئة تلمهم وتوحدهم، من أجل quot; أن نعالج هذا النقص، و نبدأ بحملة تنوير وتوعيةquot;.

فإذا كان الإسلاميون، وكثيرون من قادتهم وأتباعهم أميين وجهلة أو بالكاد يفكون الخط، قد تمكنوا من انتزاع القيادة والسطو على ثمار الربيع العربي وهزيمة الديمقراطيين بأفكار الديمقراطيين ذاتها وشعاراتهم، أفلا يجدر بملايين المثقفين والمتعلمين المدججين بالعلم والخبرة والكفاءة والفكر والثقافة أن يفعلوا مثل ذلك؟

شيء آخر. لقد فازت التيارات الإسلامية في انتخاباتٍ حرة، إلى حدٍ بعيد، وغير مزورة وغير مدبرة من قبل الأمن والمخابرات. فهل كان انتصارها بفعل برامجها الإقتصادية الناجزة وأفكارها الحضارية الباهرة، أم بضعف المنافس العلماني وقلة خبرته، وانعدام حنكته ولباقته، وضيق ذات يده، أم بفعل عوامل موضوعية عديدة أخرى؟

وهنا لابد من الاعتراف بأن أول وأقوى أسباب ذلك الانتصار هو خيانة المعسكر العلماني الغربي الأمريكي الأوربي للعلمانيين العرب، وانقلابه عليهم، واعتمادُه سياسة محاربة الإسلام المتطرف بالإسلام المعتدل المنافق الانتهازي الذي لا يمانع في تعطيل أحكام الشريعة، والقبول بإدارة دولة أغلبُ قوانينها علمانية تتنافى، قطعا وكاملا، مع الشريعة، من أجل الوصول إلى الكراسي.

أما ثاني أسباب هزيمة الديمقراطيين فهو أن الأنظمة الديكتاتورية، كلـَّها، ما سقط ومنها وماهو في طريقه إلى السقوط، تستر رجعيتها وعبثها بحقوق الإنسان بأردية علمانية ديمقراطية كاذبة، فتضع بذلك جميع العلمانيين الديمقراطيين، حقيقيين ومزيفين، معها، في خانة أعداء العدالة والحرية، في نظر الأغلبية الكادحة من الجماهير، وتجعلهم لديها في موضع الشك والريبة وعدم النزاهة والأمان، حتى لو كان بعضٌ منهم معارضا صلبا لأنظمة الظلم والفساد.

وثالث أسباب ذلك الانتصار أن الانتخابات التي شهدتها دول الربيع العربي جرت في ظل جهلٍ واقع وحقيقي تعاني منه ملايين من الناخبين الذين يتوقف على أصواتهم مصير هذا الطرف أو ذاك من المرشحين.

يضاف إلى ذلك الجهل الواسع الكبير فقر ٌوحاجة ٌملحة وعاجلة إلى من يملأ بطون الجياع، ويستر عوراتهم، ويقيهم من تعديات الأغنياء وتجار الصفقات السرية الفاضحة. ولن يكون أقرب إلى هذه الجماهير وأقدر على استمالتها وكسب ثقتها سوى قادة أحزاب الدين (السياسية) وأعضائها الذين يعيشون في حارات الفقراء، يشربون من مائهم، ويأكلون من طعامهم، ويلبسون ثيابهم، وليس (الأفندية) المتأنقين الذين يأكلون بالشوكة والسكين، ويسكنون في أحياء المترفين والموسرين.

بعبارة أخرى. لقد وعد الإسلاميون فقراءنا بالرز والدجاج والزواج بأربعة، فانتصروا، وهي أمور ليس في استطاعة منافسيهم العلمانيين استخدامها، لا نفاقا ولا اقتناعا، وسيلة ً لاصطياد أصوات الناخبين.

إن المشكلة، إذن، ليست في قلة عدد الديمقراطيين. ولكنَّ في النقص عدد المتنورين والمتعلمين في صفوف الناخبين. وهذا هو السببُ الأكبر في ضعف قدرة الأغلبية من المواطنين على التمييز والتمحيص والاختيار الصحيح.

فليست الحرية ولا الديمقراطية من أولويات الجماهير، في هذه الأيام. حتى لو غنت لها تظاهراتها الهادرة، بل السرعة في تشغيل العاطلين، وتأمين الخبز والماء والدواء، والرغبة الملحة في التشفي والاقتصاص من الحكام السابقين.

عاملٌ آخر أهم. وهو أن أغلب أحزاب الديمقراطيين العلمانيين، عدا الحزب الشيوعي، أحزابٌ فوقية تؤسسها نُخبٌ قادمة من أصول بورجوازية مترفة توفر لها المال فظنت أنه كافٍ وحده لتجييش المؤيدين والمناصرين. ولنا في تجمعات النـُخب المصرية والتونسية والعراقية والسورية أسوة ٌ غير حسنة، مع الأسف الشديد.

في حين أن أغلب الأحزاب الدينية الفائزة هي أحزابٌ قواعدية تبدأ من تحت وتصعد إلى أعلى. ولأنها، في غالبيتها، أحزاب فقيرة غير ثرية، فقد كان أكثرُ نشاطها السري بين الطبقات الفقيرة، وليس الغنية الموسرة، الأمر الذي أكسبها خبرة في معرفة هموم هذه الجماهير العريضة، وأحلامها وآلامها، فأحسنت مخاطبتها.

لا يعني هذا أن يستسلم العلمانيون الديمقراطيون. بل إن الزمن الآتي هو زمن استراحة ومراجعة وتخطيط وتعمير وتنظيف، من أجل التخلص من أية معوقات وأدران وطفيليات علقت بهم في الأزمنة الفائتة.

خصوصا وأن منطق العقل والواقع لا يبشر أحزاب الدين (السياسية) بخير. فهي لن تتمكن من تحقيق ما انتظره منها الناخبون، خصوصا إذا أصرت على احتكار السلطة وتهميش القوى التكنوقراطية غير الدينية الأخرى.

وأغلب الظن أن الإسلاميين المنتصرين لن ُيفلحوا، في أربع سنوات، في توفير فرص عمل جديدة بالملايين، وُلن ُيقيلوا عثرة الاقتصاد المتعب المريض، ولن يقيموا صناعة متطورة ناجحة، وزراعة حديثة مزدهرة، ولا سياحة ولا تعليما ولا ثقافة، بل قد تزيد معدلات الفقر والجهل والبطالة.

هذا إذا حدثت معجزة فغالبوا بريق السلطة والمال، ولم يتسخوا بالعمولات والسرقات واستغلال النفوذ ومحاباة الحبايب والأقارب والمناصرين. وأمامكم ما جرى ويجري في العراق على أيدي قادة الأحزاب الدينية الحاكمة، من فساد وخراب وعبث بلقمة المواطن وكرامته وأمنه، والعياذ بالله.

إن ساحة العلمانيين الحقيقية هي الجماهير المُستـَغفلة المُستغـَلة الواسعة. إنها الأحوج إلى جهاد مضاعف لكسب أجيالها الشابة المتنورة وتثويرها. والمعركة الانتخابية المقبلة، بعد سنوات، معركة رز ودجاج وليست فقط معركة ديمقراطية وديمقراطيين، ومعركة فقراء معوزين وليست فقط معركة متعلمين مترفين.

والأمل كبير في أن نجد رفاقنا الديمقراطيين العلمانيين قد حفظوا الدرس، وتعلموا من الفشل، وتبينوا مواضع الخلل، لإقالة العثرة، وتعديل كفة الميزان.