الجديد اللافت الذي ظهر على جدول الإجتماع الأخير للجامعة العربية، الأحد الماضي، هو مبادرتها الجديدة، التي يبدو من تفاصيلها، هي أنها أشبه ما تكون بquot;المبادرة الخليجيةquot;، التي قُدمت إلى الأفرقاء اليمنيين، للخروج من أزمتهم، والخروج بالبلاد من حرب quot;اليمن ضد اليمنquot;، إلى مصالحة اليمن مع اليمن، تحت سقف quot;حكومة وطنيةquot; واحدة، للإنتقال تدريجياً إلى حكم برلماني ديمقراطي تعددي، يحكم فيه الشعب اليمني نفسه بنفسه، كما نص عليه جوهر الإتفاق الذي تم التوقيع عليه، برعاية سعودية وأممية، قبل شهرين، من جهة كلّ الأطراف اليمنية من الموالاة والمعارضة.

تنص الخطة العربية في جوهرها، على quot;تفويض رئيس الجمهورية نائبه الاول بصلاحيات كاملة، للقيام بالتعاون التام مع حكومة وحدة وطنية، يفترض ان يتم تشكيلها خلال شهرينquot;، ويفترض أن ترأس حكومة الوحدة الوطنية هذه quot;شخصية وطنية متفق عليهاquot;، وأن تكون مهمتها quot;تطبيق بنود خطة الجامعة العربية، والإعداد لإنتخابات برلمانية ورئاسية تعددية، حرة، بموجب قانون ينص على اجراءاتها، وباشراف عربي ودوليquot;.

ما يميز هذه الخطة العربية لquot;إنقاذquot; سوريا من السقوط في الحرب الأهلية، والسيناريوهات المجهولة الأخرى، هو تكاملها، وتحديدها بسقف زمني، للإنتقال بالبلاد من حالة الفوضى واللاأمان واللاإستقرار والحرب الأهلية، التي بدأت بوادرها تظهر في أكثر من مكانٍ سوري، إلى حالة النظام والإستقرار والسلم الأهلي وحكومة الوحدة الوطنية، ومن ثم إلى الديمقراطية المفترضة، تحت إشراف عربي ودولي.

أما الأمر الآخر الذي يميّز هذه المبادرة، هو أنّ الجامعة العربية طالبت مساندة ودعم الأمم المتحدة لها، لأجل إنجاح خطتها quot;المتكاملةquot;، لإخراج سوريا من أزمتها. ويأتي طلب رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم، والأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي، أمس، للإجتماع بالأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، خطوة أولية في هذا الإتجاه.

دولياً، رحبت أميركا وكندا ودول الإتحاد الأوروبي بالمبادرة، معتبرةً إياها بquot;الخطوة الإيجابيةquot;.
في الإجتماع الشهري لمجلس الأمن، أمس، طغت المبادرة العربية على جدول أعمال المجتمعين، وجددت أميركا والدول الأوروبية دعمها للخطة العربية، واصفين إياها بquot;الخطة الجديرة بالإهتمامquot;، التي تتطلب من الجميع دعمها، حسب وصف بعضها. وبحسب ديبلوماسيين فإنّ أميركا ودول أوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا تبحث مع قطر ووفود عربية أخرى، لأجل استصدار قرار أممي من مجلس الأمن، لدعم هذه الخطة.

المبادرة العربية الجديدة، رغم أنها تُفسر من جانب الكثيرين من أهل المعارضة السورية، والمحللين السياسيين، على أنها quot;سفينة إنقاذquot; جديدة للنظام السوري، ومهلةً أخرى سيستغلها النظام لإرتكاب المزيد من القتل بحق المدنيين العزّل، إلا أنّها في الواقع تعتبر quot;نقلة نوعيةquot; في موقف الجامعة العربية من الملف السوري، لا سيما وأنها تنص بصريح الكلام، على quot;تفويض رئيس الجمهورية نائبه الأول بصلاحيات كاملةquot;، ما يعني تنحي الأسد وتخليه عن السلطة.

بالتوازي مع هذا الموقف النوعي للجامعة العربية، وتجاوباً مع موقف السعودية التي رفضت أن تكون quot;شاهدة زورquot; على ما يرتكبه النظام السوري من قتلٍ بحق شعبه، صدر من دول مجلس التعاون الخليجي، قبل يومين، موقف نوعي آخر، أعلنت فيه quot;سحب ممثليها عن بعثة الجامعة العربية للمراقبة في سورياquot;، رّداً على عدم التزام النظام السوري ببنود البروتوكول، كما كان متفقاً عليه، وعدم وقف العنف، وازدياد وتيرة القتل وإرهاب المدنيين بعد دخول المراقبين سوريا، فكانت النتيجة سقوط ما يقارب ال1000 شهيد خلال 21 يوماً من عملهم.

إلا أنّ هذا quot;الخروجquot; الخليجي من بعثة المراقبين العرب، لا يعني خروجاً على العمل العربي المشترك، تجاه القضية السورية، لا سيما ذاك المتعلق بجديد المبادرة العربية، التي هي محل إجماع عربي. فالمملكة العربية السعودية التي قادت الخروج الخليجي من بعثة المراقبين العرب، أكدت أمس على لسان سفيرها لدى الأمم المتحدة، عبدالله المعلمي، أنها تطالب السلطات السورية الكفّ عن قتل شعبها واستخدام العنف ضده، داعية النظام الإلتزام ببنود المبادرة العربية، لتجنيب البلاد مما هو أسوأ وأخطر.

هذه الخطوة الخليجية التصعيدية تجاه النظام السوري، تعني دون أدنى شك، دخول الأزمة السورية مرحلة جديدة، ما يعني تضييق الخناق، عربياً، على النظام السوري، الذي لم يستمع بعد كلّ هذا القتل وكلّ هذه المبادرات، إلى صوتٍ سوى صوته. هذا فضلاً عن أنه موقفٌ فيه من اليأس ونفاذ الصبر والإحساس بالمسؤولية، وضرورة التفكير بنقل الملف السوري من الجامعة العربية إلى مجلس الأمن، إن تمادى النظام السوري أكثر في غيّه.

على الرغم من رفض النظام السوري للمبادرة رفضاً قاطعاً، بالجملة والتفصيل، إلا أنه سيعيد دراستها بالتأكيد كعادته، كما درس أخواتها من قبل، وسيقدّم فيها نقاطاً ويؤخر أخرى، وسيحتج على بنودٍ ليعدّلها أو يستبدلها بآخرى، ليصل في النتيجة إلى مبادرة مفصّلة على مقاسه، تماماً كما فصّل برتوكول المراقبين quot;على كيفهquot; قبل شهر، وفصّل دستور البلاد قبل حوالي 12 عاماً على مقاس عمر الرئيس. لكن أن يقبل النظام بالمبادرة كما هي عليه الآن، بأن يرحل الرئيس quot;رحيلاً سهلاًquot; بدون ضمانات، ليحلّ محله نائبه الأول بالصلاحيات الكاملة، كما تقول المبادرة، فهذا لا أظنه وارداً الآن، في حسابات أهل النظام.

في المقابل، ستدرس المعارضات السورية هي الأخرى المبادرة، التي لاقت لدى بعضها صدىً إيجابياً، لكنّ الأكيد هو أنها(لا سيما تلك التي تسمى بالمعارضة الخارجية الممثلة بالمجلس الوطني السوري الذي يتخذ من استانبول مقرّاً له) لن تقبل بها بأقل من رحيل النظام، بكلّ أركانه ورموزه، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، كما أعلن المجلس عن ذلك في الأول من تأسيسه، ولا يزال.

والأكيد أيضاً، هو أنّ الأزمة السورية على مستوى الشارع السوري المنتفض، والذي دفع حتى الآن، من دمه وماله وعرضه وكرامته ومستقبله الكثير الكثير، تعدّت في كونها مجرد رئيس أو نظامٍ عليه أن quot;يرحلquot;. فالثوار على الأرض يرفعون منذ أشهر شعار quot;إعدامquot; الرئيس وأركان نظامه.

عربياً، الكلّ في الجامعة العربية(بشهادة أمينها العام) مستاءٌ من سوريا، ويعلم علم اليقين وعينه، أنّ إخضاعها لهكذا مبادرةٍ سيكون صعباً جداً، هذا إن لم يكن مستحيلاً أصلاً، خصوصاً وأنّ النظام السوري، لا يزال هو هو منذ حوالي 11 شهراً، مستمرّ على نهجه الأمني والعسكري، في قتل شعبه، وضربه بالحديد والنار، دون أن يقدّم له حتى الآن تنازلاً واحداً.

المبادرة العربية الجديدة هذه، قبل أن تكون quot;حلاً ممكناًquot;، ربما هي في مبتغاها الأخير quot;لعبة ممكنةquot;، للإلتفاف على الفيتو الروسي والصيني، للذهاب مع quot;الكذاب إلى حدّ البابquot; كما يقال.

هي مبادرةٌ، فيها من quot;اللعب الممكنquot;، أكثر من quot;الحلّ الممكنquot;.

هي مبادرةٌ، يُراد منها على الأرجح، إحراج الروس والصينيين، أكثر من أن يُراد منها إحراج الأسد ونظامه، الخارج على كلّ حرجٍ.

في أول تعليقٍ له على المبادرة العربية الجديدة، قال السيناتور الروسي، ورئيس لجنة الشئون الدولية في مجلس الإتحاد الروسي، ميخائيل مارغيلوف: quot;لابد من الاعتراف بان الوضع في سورية وصل حالياً إلى طريق مسدودquot;. وأضاف quot;أنّ الجامعة العربية لن تتراجع عن خطتها الجديدةquot;.
أمس، جددت روسيا موقفها بالوقوف مع النظام السوري ضد اتخاذ أية قرارات دولية من شأنها معاقبته. وهو ما يعكس ما قاله وزير الخارجية السوري وليد المعلم، أول أمس، بأنّ quot;روسيا لن تقبل بأي تدخل دولي في شئون سوريا الداخلية..هذا خط أحمرquot;.

بين الفيتو الروسي الرافض لأي تدخل دولي في شئون سوريا الداخلية، وبين ما قاله مارغيلوف بأن quot;الوضع في سوريا قد وصل إلى طريق مسدودquot;، قد تفرض المبادرة العربية نفسها على طاولة مفاوضات مجلس الأمن، كطريق ثالث، للخروج من الأزمة، في وقتٍ بات يشعر فيه الروس كغيرهم في المجتمع الدولي، بأنّ النظام السوري لم يحقق حتى اللحظة، أية إصلاحات جدية في البلاد، من شأنها تخفف من غليان الشعب في الشارع، كما جاء في آخر تصريحٍ لمارغيلوف أدلاه قبل يومين لوكالة إيتار تاس.

عليه، من المحتمل جداً أن يكون إعلان وزارة الخارجية الروسية، على لسان مهندسها الأول سيرغي لافروف، أمس الأربعاء، عن استعدادها لquot;استضافة الأطراف السورية في أراضيها لإجراء الحوار بينهاquot;، بمثابة إعلان أولي عن قبول روسيا للمبادرة العربية، وهو ما سوف يعني قبول النظام بها، رغم رفضه المبدئي لها وإعتباره إياها quot;تدخلاً سافراًquot; في شئون بلاده، وذلك تحت ضغطٍ روسي، لتجنب التدويل وإنقاذ quot;الفيتو الروسيquot;، الذي قد يصل إلى quot;طريق مسدودquot;، كما هو الوضع الآن في سوريا، ما يعني مواجهة روسيا المزيد من الإحراج أمام المجتمع الدولي.

إذن، بعد طرح الجامعة العربية لمبادرتها الجديدة، التي هي خطوة متقدمة مقارنةً مع سابقتها، دخل الملف السوري، عربياً، مساراً آخر. هذا المسار الجديد، فرضه جملة من العوامل الخارجية والداخلية المتعلقة بطبيعة الملف السوري المعقد والشائك، ناهيك عن صعوبة وحساسية التعامل معه.

الديبلوماسية العربية الفاشلة دائماً في تعاملها مع ملفات عربها، تريد الآن أن تجرّب حظها مع quot;سوريا الأسدquot;، خصوصاً وأن النجاح قد كتب، حتى الآن، للديبلوماسية الخليجية، في إخماد النار اليمنية، والتي كادت أن تلقي باليمنيين في أتون حربٍ أهلية طاحنة.
فهل هذا السيناريو الذي مشى عليه اليمن، ممكن سورياً؟
هل ستذهب سوريا، والحال، إلى اليمن؟
هل سيقبل الأسد أن يكون quot;صالح سورياquot;؟
هل سيقبل أهل المعارضة بأن quot;يرحلquot; الأسد وعائلته، ويتركونهم يذهبون إلى حال سبيلهم، كما ذهب الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، محصّناً، إلى نقاهته؟
هل سيرحل الأسد وعائلته عن الحكم، مقابل رحيل الشعب عن الشارع، لتذهب سوريا رحيلئذٍ، سلميةً ديمقراطيةً تعدديةً، إلى جميع أبنائها، كما تقول إرادة المبادرة؟
هل سيعفي الكلّ السوريّ عن الكلّ، بعد كلّ هذا الدم الكبير؟
وهل سيتصالح الجميع مع الجميع، ويشارك الكلّ في سوريا الكلّ، وquot;عفا الله عمّا مضىquot;، كما يُقال؟

كان من الممكن أن يكون كلّ ذلك قابلاً للتحقيق، لو نزل الرئيس بشار الأسد منذ البداية، من برجه العاجي، واستمع قليلاً لشعبه، وسمىّ الأمور بمسمياتها الحقيقية، لا كما أراد لها أن تكون quot;مؤمرات كونية خارجيةquot;، تستهدف سوريا كما قال ولا يزال، لا سيما وأنّ شعار الثورة كان قد بدأ بquot;إسقاط المحافظquot; في درعا، وليس بquot;إسقاط أو إعدام الرئيسquot;، كما يرفعه الثوار الآن.
كان من السهل جداً، أن ينقذ الأسد نفسه وعائلته وشعبه أيضاً، مما يجري الآن من قتلٍ كبير، ومما هو آتٍ من مجهولٍ أكبر، يصعب على أهل السياسة تكهنه.

لكن الآن، بعد كلّ هذا الدم الغزير، وسقوط ما يقارب ال7000 شهيد، واعتقال أضعاف أضعافهم من أهل الثورة المدنيين، يبدو أنه بات من الصعب جداً، التفكير سورياً، بهكذا سيناريو، أو تمكينه كquot;أهون الشرينquot;، لا سيما وأنه يتطلّب الكثير من العفو، والقليل من الإنتقام.

فسوريا، على ما يبدو من فاتورة دم أهل ثورتها الباهظة، ليست باليمن، والأسد ليس صالحاً. كذا تركيبة الثورة السورية التي دخل عليها النظام، عبر أكثر من خط طائفي، ليست كتركيبة الثورة اليمنية، هذا ناهيك عن أنّ المعارضة السورية المشتتة أصلاً والمنقسمة على نفسها، ليست كالمعارضة اليمنية، التي توحدت تحت سقف واحد، وأهداف واحدة، في يمنٍ واحد.

العالم كلّه، بمن فيهم أصدقاء الأسد، باتوا يعلمون، أنّه لا يريد من سوريا سوى نفسه.
فالرجل لا يزال يرى سوريا كمزرعته، كما رآها والده من قبل.
الكلّ يعلمُ، أنّ الأسد في سوريا وما حولها، ليس رجل حلول، بقدر ما هو رجل مشاكل.
هو رجلٌ، لا يمكن له ولنظامه أن يعيش في الحلول ومعها.
هذا النظام، يعيش منذ أكثر من أربعة قرونٍ في المشاكل وبالمشاكل وعليها.
المشكلة الأساس في الأزمة السورية، ههنا، هي أنّ هذا النظام ليس جزءً من المشكلة فحسب، وإنما هو كلّ المشكلة، أو المشكلة بعينها، من أولها إلى آخرها.
فزوال المشكلة أو الأزمة السورية الراهنة، يعني زوال هذا النظام كله، وهذا مايرفضه الأسد، ومن الصعب جداً أن يقبل حلاً لمشكلةٍ، هو يكونها أسّاً وأساساً.

عقلية الأسد، هي أشبه ما تكون بعقلية القذافي.
الأسد، كالقذافي، لايرى العالم، إلا في صورته؛ العالم هو صورته، وصورته هي العالم.
لا يهم الأسد، كالقذافي، ما يقوله العالم وشعبه، وإنما المهم فقط هو ما يقوله هو.
لايهمه، ما يفكّر به العالم، وإنما المهم هو ما يتخيّله أو يتراءى له.
لا يهمه ما يريده شعبه، الذي يريده العالم، وإنما ما يهمه هو ما يريده هو.
الأسدُ، لا يهمه ما يريد شعبه أن يكونه، وإنما المهم فقط، هو ما يريده هو للشعب أن يكون.


[email protected]