ما يحدث في سوريا حاليا ثورة مسلحة وغير مسلحة، بجناحين من مظاهرات وقتال شوارع.
حاليا الجو النفسي جدير بالتحليل لأثره المدمر أو الباني في المستقبل.
هناك العديد من التجليات النفسية سلبية وخطيرة.
حاليا نجح الأسد الابن بجر الثورة من منطلقاتها الثلاث إلى عكسها وضدها تماما.
كانت الثورة تقول ثلاثا: لا للعنف والتسلح. فتسلحت وأصبح لها أنياب وأظافر ومخالب.
كانت الثورة تقول لا للطائفية وحاليا المعركة قسم منها طائفي وهو مرشح للزيادة.
ليس كل الثوار متسامحون وعقلانيون.
ليس غريبا إذن تصريحات بني صهيون عن احتمال نزوح علوي إلى أراضيهم. أو قول الطفيلي مؤسس حركة حزب الله باحتمال تحالف صهيوني مع حزب الله بعد تدفق المقاتلين المتشددين من السنة إلى سوريا كما نشرت جريدة المساء المغربي خبر المغربي الذي قتل في سوريا بجنب الجيش الحر السوري وهو ليس الوحيد من المغاربة كما لن يكون الوحيد من المتطوعين المجاهدين الذين يرون سفح الدم اليومي فيغلي الدم في عروقهم ويلتحقوا تحت ضغط الضمير. بكلمة مختصرة هل سوريا في طريقها أن تصبح أفغانستان جديدة؟.
هناك العديد من الشرفاء والشريفات من العلويين والعلويات (سمر يزبك نموذجا) وهناك كتلة من العلويين مازالت في صف النظام إيجابا بالقتال في صفوفه أو سلبا بالصمت مع غالبية الصامتين، وهم ليسوا علويين بالضرورة.
تأمل ظاهرة البوطي وحسون من الطرف السني! راجع ما كتب (كيلو) عن الكنيسة في خطابه للحبر الأعظم (أثناء زيارة البابا إلى لبنان سبتمبر 2012م). تأمل موقف حزب العمال الكردستاني!
كانت الثورة تقول أنها ضد التدخل الأجنبي، وهي حاليا تطالب بإلحاح بالتدخل الأجنبي بعد أن قفز الأسد الابن إلى مستوى خيالي من القسوة المفرطة بدك المدن بالمدافع والطائرات.
ما يجري حاليا في سوريا هي حالة حرب بامتياز.
الحرب تختصر بثلاث كلمات: جنون وإفلاس أخلاقي وجريمة.
في الحياة العادية إذا خدش جار جاره اعتذر وتقدم بالتعويض بالكلمة والتصرف اللبق. الجيش العقائدي السوري يقتحم البيوت وينتهك المحرمات ويحمل ما ثقل وزنه وقل ثمنه من براد وكنبة!.
في الحرب يقتل الإنسان أخيه الإنسان فلا يحاسب بل يكافئ ويعتبر بطلا قوميا. حاليا الشبيحة في سوريا يأخذون مرتبات الأطباء والمهندسين وهم يقتلون بدون حساب وضمير.
أكثر المجانين من جنرالات الحروب وضعت على صدورهم النياشين.
في سوريا اعتبر مثلا (شفيق فياض) بطلا لأنه ساهم في دعم نظام الأسد الأب في حلب في ثمانينات القرن العشرين بإذلال الناس وإهانتهم وسلب أموالهم وكرامتهم وتمشيط كل مدينة حلب بيتا بيتا بما يعجز عن أبالسة الجحيم.
روت لي سيدة حلبية أنها كتبت شعرا رائعا فاضطرت إلى حرقه مع تمشيط البيوت في ذلك الوقت فهي عليه نادمة حتى اليوم!
ليس كل ما يحدث في الساحة السورية إيجابي مع وجود مظاهر إيجابية.
سوف استعرض أبرز المظاهر السلبية في الثورة السورية.
لعل أبرزها تجليات الكراهية؛ إذا تكلم لافروف أو المعلم أو الأسد الابن أو الزعبي وزير الإعلام أو خصومهم من رجالات المعارضة لاذقاني ـ غليون ـ سيداـ صبرا ـ لبواني؛ فالحديث هنا يدور حول الحواف الحدية وليس ثمة مفاوضة ووسط.
نحن نعيش حاليا في وسط مشبع بالكراهية والأحقاد المتبادلة وتحييد العقل ونبذ روح السلام أو التسامح أو الحديث عن الحلول الوسطية.
إننا نعيش وسطا غير صحي البتة.
الحديث الآن للبارود والقوة والنار والعضلات وخناجر الشبيحة حتى يأذن الله بانقلاب الدورة على صورة ما.
هناك الكلفة الباهظة للثورة السورية. إنه يذكرني بالجراح الذي يدخل في عملية جراحية بسيطة فيحسب حسابه أنها ستنتهي في نصف ساعة فتطول خمس ساعات مع نزف شديد ومضاعفات مريعة وأخذ المريض للعناية الفائقة المركزة (ICU).
نحن هنا في سوريا ليس ثمة مكانه اسمه عناية فائقة والمشافي الميدانية تقصف والأطباء تقتل والجرحى في المشافي العامة يذبحون. إنه التجلي الأعظم للحقد المتبادل.
يجب أن نعترف للأسد الأب وحاليا الابن أنه فجر نوازع الشر وأخرج من بطون الناس أقذر ما فيها، وفتح صندوق (باندورا Pandora - Box) ففاحت الشرور ألوانا، واعتمد الحل الأمني فلم ينجح؛ بل قاد خصمه إلى نفس المنزلق.
قاد رجال الثورة في قسم كبير منهم إلى نفس العين الحمئة القذرة من القتل المتبادل.
ماذا تتوقع من أناس تهبط بيوتهم فوق رؤوسهم وينكبون بقتل أحبابهم تحت قصف الطائرات.
إنها مظاهر لا يرويها الأجداد عن حملة غورو الفرنسية ولا مذابح بني صهيون.
سوريا تعيش كل يوم في مذبحة. درعا ـ الصنمين ـ الحولة ـ القبير ـ داريا ـ القابون ـ قدسيا ـ باب عمرو من قبل ـ إعزاز ـ إدلب .. وعشرات عشرات المذابح.
فقط تتحرك في الذاكرة مذابح المغول من العصور الوسطى في الوقت الذي نعيش القرن الواحد والعشرين.
الزمن لا يهم المهم العقلية.
هناك الكثير من البشر يعيشون الزمن ولكن بعقلية متوقفة في مربع الزمن. كيف نفهم الإعدمات الميدانية والذبح بالسكاكين حتى للنساء والأطفال! حتى النازيين تورعوا عن هذا ولكن هؤلاء الأوغاد يفعلون... كان حارث سيلاجيج (وزير الخارجية) في البوسنة يكاد يضيع ويتلعثم وهو يردد لا أفهم كانوا معنا في نفس القرى والآن يقتلون كل شيء يتحرك!
قتل الأب عشرات الآلاف في حماة في ثمانينات القرن الفائت، ولكن الابن سبق والده فهو يحرق كل سوريا، وفي النهاية سيحترق ويشرب من نفس الكأس دهاقا.
لنتذكر الصرب ومذابحهم في البلقان. إنهم يحيون ذكرى معركة أمسل فيلد تلك التي وقعت عام 1389م بين ملكهم لازار والملك العثماني مراد الرابع.
وكلا الملكين قتلا في المعركة فما أبأسها من ذكرى؟
كلفة الحرب في سوريا حاليا مخيفة. كثير من المحللين يرى أن هناك أيادي خفية من أطراف خفية حريصة على طول الحرب وتفتيت سوريا ببناء دول خرافية قزمة صغيرة للعلويين وأخرى للدروز وثالثة للأكراد ورابعة لا أدري لمن؟
ستخرج سوريا من هذه الحرب تشبه نموذج المريض المصاب بالانيميا (فقر الدم) فهو يجرّ أقدامه جرا، ويحتاج فترة طويلة للمعافاة، وهي فترة يستريح فيها بنو صهيون أو هكذا يتخيلون بعد أن أعطاهم الأسد الأب استراحة أربعة عقود؛ فلماذا لا تسحب مع الابن أربعة أخرى، ولو على أنقاض سوريا على شكل مزبلة ومقبرة ومهدمة.
المهم بقاء عائلة السنوريات في سدة الحكم كما قال البدوي قديما: يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة. الأسد أو نحرق البلد!!
يبدو أن نجم دولة المخابرات الأسدية من بقايا دول الحشاشين والقرامطة ماض في الأفول ولكن لن يبقى حجر على حجر.
من أخطر ما يترتب على الثورة السورية الحالية هو تعميق الشرخ السني الشيعي ولا نعرف إلى أي عمق في الفالق يصل.
الفوالق الجغرافية يمكن أن تكون بنماذج ثقافية خطيرة.
من هذه النماذج من الفوالق الأرضية هو صراع البوسنة حيث بدأ التصدع من عام 389 م حين تم اقتسام الإمبراطورية الرومانية إلى شرقية وغربية بين أونوريوس وأركاديوس. وعند هذا الصدع التاريخي نشأت العقائد من أرثوذوكس وكاثوليك. وحين دخل الأتراك البلقان ملّ وقرف فريق من الصرب هذا الصراع فاعتنقوا الإسلام ودفعوا ثمن هذا الخطأ التاريخي دماء لا تنتهي حتى اليوم.
ما حصل في معركة صفين حسب تحليل المفكر الجزائري مالك بن نبي أنها لم تكن معركة عرضية بل كارثة تاريخية عارمة، وفالق في جسم الحضارة الإسلامية قادت إلى توقف المد الروحي في تدفق روح الحضارة. وتحولت الأمة إلى مرحلة القبيلة ثم البيت ثم الفرد الواحد كما هو الحال في ديكتاتوري العالم العربي الترانزستور!
ينقل بن نبي عن مؤرخ آخر مخطط الحضارة في ثلاث نقاط (وثبة الروح) و(مخطط سواء العقل) و(انحطاط الغريزة). يعتبر مالك بن نبي أن وثبة الروح توقفت عند نقطة صفين..
ما يحدث في سوريا تفتت وانهيار أخلاقي وبزوغ عالم الغرائز من لدن الغوريلات وقرود البابون بالعض والهرس والذبح والخطف والاغتصاب.
كل غرائز الغابة البدائية موسمها الرائع الرائج هو اليوم في سوريا..
رأينا بعض الآثار من تعميق الشرخ السني الشيعي في مؤتمر دول عدم الانحياز بالكذب الإيراني بنخسة ونسخة سورية، حين بدلت كلمة الرئيس المصري مرسي كلمة سوريا فوضعت البحرين. حقيقة يراجع الإنسان هذه المعضلة الأخلاقية عند قوم عمائمهم أكبر من جبل فوجي وأئمتهم لا يزلون ولا يخطئون ثم هم يمارسون الكذب بطريقة وقحة وبدائية وطفولية حتى.
في القرآن عرض مستفيض لأمراض أهل الكتاب منها مرضين خطيرين بخلط الحق بالباطل أو النوع الآخر فهم الحقيقة ثم تحريفها عن سابق عمد وتخطيط.
يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون.
هذا ما يفعله ملالي إيران.
ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (هنا الجناية ثلاثية : استيعاب الحقيقة وتحريفها بذكاء مع معرفة أنهم يفعلون ذلك تماما فليس ثمة خطأ واجتهاد بل تصميم على التزوير).
هكذا خرجت النسخة الإيرانية المزورة للحقيقة من ملالي مظهرهم أنهم أئمة الله على الأرض فلا يكذبون.
إنها السياسة الكذابة المنافقة أليس كذلك؟
هناك أمر خطير آخر من التجليات السلبية للثورة السورية من الندبات والجروح الاجتماعية فلن تبق العلاقة قط بين السني والشيعي والسني والعلوي كما كانت من قبل بل ستبقى مثقلة بذاكرة تاريخية مؤلمة من القتل والسلب والاغتصاب والكراهية المتبادلة.
ليس فقط مع العلويين بل مع شرائح كثيرة من المجتمع السني والفقهاء الفقعاء (تذكر البوطي والحسون وأضرابهم).
أنا شخصيا في عائلتي بدأت الشروخ وهو نموذج لكثير من شرائح المجتمع السوري في هذا التحول الذي ربما لم تشهده سوريا منذ ألف عام. (ضربة الميلينيوم = Mellinium).
إنها شروخ وندبات مريعة لن يشفى منها الشعب السوري بسهولة ويسر؟
هناك أمر خطير آخر من هذا المخاض العسير أن بقية الشعوب العربية تكتشف بمرارة أن ثورة تونس كانت نزهة، وأن ثورة مصر كانت رحلة فسيخ موسمية (عادة المصريين لأكل السمك الفسيخ في الربيع ربما من أيام الفراعنة)، وأن تظاهرات اليمن لم تكلف عشر معشار الثورة السورية، أما ليبيا فقد أراح الناتو الليبيين من المخاض السوري جزئيا.
ولكن المجنون الليبي ونيرون السوري أوحيا إلى الشعوب العربية أن باب الثورات دموي جدا جدا ومكلف جدا جدا وآثارها مؤلمة محطمة مدمرة، ولذا فهو درس لأي شعب عربي آخر، بل أي شعب في البسيطة، أن حذاري من الثورة فتصيبك النار السورية التي لن تبق لك ثيابا وجلدا! وكفى بهذا من أثر مدمر.
كذلك ستكون الآثار في أعظم بشاعة لها إذا تمت تسوية الثورة في الكواليس الخفية بين القيصر الروسي والرئيس الأمريكي فيضحوا بالأسد المجنون مثل كبش أملح في يوم العيد؛ فيقتله من حوله بسكين الشبيحة وربما معه عائلته؛ فتفرح الجماهير أنها حققت نصرها، وفي الحقيقة يبقى الجهاز الأمني الأخطبوطي كما هو. دعنا نأمل أن لا تحدث هذه الكارثة فتضيع دماء الشهداء بأبخس الأثمان.
إنه أمر قد يحدث وقد حدث في التاريخ.
تأمل موت مليون جزائري لينتهوا بحكم الجنرالات القبيح.
تذكروا موت ثمانين ألفا في إيران ليلتهم ملالي قم الثورة مثل أفعى الأناكوندا قردا غافلا، ثم لتكون ثورة الخميني مصيبة على رؤوس السوريين تدشن بأقبح الكذب في أعظم نادي عالمي.
إن الجو النفسي حاليا في سوريا أقرب للجنون؛ كراهيات فظيعة. تطرف لا يعرف الاعتدال أو السماع للآخر. عداوات متبادلة. بيوت مهدمة. بنات مغتصبات بحمل غير شرعي. أغنياء حرب من الشبيحة. جو من عدم الثقة. أصابع أجنبية كثيرة. دجالون من نوع (عمران) يتنبأ بحضور سريع للمهدي الدجال وهو الدجال.
إنها أجواء خبيثة لا تنذر بالخير.
في هذا الجو الجهنمي تنمو طفيليات من أغنياء الحرب بنهب الجار الذي حسده فترة طويلة لجمال بيته وحسن مقتنياته من متاع وأثاث. إنها فرصة الآن لتدمير محتويات المنزل، بل وحرقها ونهب ما ثقل وزنه ورخص ثمنه، عكس قوانين الحرامية في بلاد العالم أجمعين.
انفجار أقبح ما في النفس من غرائز الغابة البدائية مناظرها الذبح والسلخ بالسكاكين وفلق رؤوس الأطفال بالسواطير والبلطات.
مع هذا فالحرب كما يقول هرقليطس أنها تحرك المياه. تنقل طبقات للقمة، وتنزل بأخرى إلى مهاوي العبودية؛ فهل سوريا في طريقها كما سلك بنو إسرائيل الطريق مع موسى فعبر البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم؟
أم أنها ستهلك كما هلك الألمان حين مشوا خلف هتلر وهم يهتفون هايل هتلر!!
فمنهم شقي وسعيد..
دعنا نتفاءل بالأفضل ونستعد للأسوأ.
ينقل عن فيلسوف القوة نيتشه قوله أن التشاؤم علامة انحطاط والتفاؤل سطحية وسذاجة. التصرف الصحيح ولادة الأمة من رحم المعاناة. وهذا الذي يحدث حاليا.
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون.
والآن ما هي الآثار الإيجابية لنار المحنة السورية التي تقوم بصهر الأمة وخلقها من جديد كما ألان الله الحديد لداوود. فليس مثل النار طهورا وتخليصا من الشوائب وصهرا للمعادن. هنا تلعب جهنم دور المطهر كما تصور دانتي الجحيم. نعم إن الأمة السورية تدخل نار إبراهيم ولسوف تكون بردا وسلاما على هذا الشعب الأسطوري.
اجتمعت بطبيب أسنان من بصرى الحرير وهي مدينة صغيرة في أرض حوران قلت له متعجبا معلوماتي عن أهل حوران أن نصفهم حزبيون وربعهم في الجيش أو عناصر مخابرات ومنهم الطبل الأعظم (عبود) ونائب رئيس الجمهورية (فاروق الشرع) الذي لازم الأسد الكبير أشد من ظله في وزارة الخارجية، ومنهم السفاح حرامي لبنان مع أربعين حرامي آخرين (رستم غزالة)، ومنهم القداح من (الحراك) الحزبي بثقل جبل في القيادة البعثية ومنهم فيصل المقداد لسان الحزب وطلاؤه الخداع.
قلت للطبيب الحوراني عجبا لأرض حوران كيف تغيرت وانقلبت سؤالي لك بعد كل ما حدث ما هي أخبار مدينتكم؟ قال سكانها 25 ألفا لم يبق منهم ألفان. وأول القتل بدأ عندنا فقتلنا من الشبيحة ستين وسقط منا ستة شهداء. ثم استحر القتل فلم يبق حجر على حجر وهو على ما يبدو مصير سوريا على يد المجنون.
قلت له بعد كل هذا الخراب والدمار هل من ندم ونادم قال نعم نحن نادمون أننا تأخرنا في حربهم والانتفاضة في وجههم والقضاء عليهم ولو توفر لنا السلاح لحررنا حوران من العبدان والزعران.
التفت رجل مسن بجنبه فقال تأمل قوله تعالى عن الفتنة والمحنة فنحن صامدون وإلى النصر بإذن الله سائرون.
قلت له عندي سؤال أكرره على الكثيرين كيف هي معنويات الناس في الداخل بعد كل ما جرى؟
قال إذا نضب صبرك وأعيت حيلتك وضاق صدرك فمنهم خذ المدد! تعجبت من جديد ثم تذكرت قانون المحنة الذي قبعت على دراسته يوما لاكتشف هذا القانون النفسي الاجتماعي بأبعاد أربعة.
لفت نظري في القرآن تكرار مفهوم الفتنة والمحنة والزلزلة. كنت معتقلا في سجن المزة العسكري فور التحاقي بالجامعة عام 1965م. كنت في مظاهرة في الجامع الأموي ـ حين كان ثمة حياة سياسية في سوريا ـ فالقي القبض على خمسة آلاف في قبضة أمنية واحدة دفع بنا إلى الشاحنات ثم اقتادونا إلى السجن الرمادي الرهيب. كان الوقت رمضان وعسكري يمر علينا وينفث الدخان في وجهنا زيادة في التنكيل.
لا أدري ما الذي ذكرني بأفلام الهنود الحمر! مررت بين صفين من الجنود والكل يصفع ويسب ويلعن ويشتم بأقذع الألفاظ أمهاتنا.
لا أدري لماذا يحب الجيش السوري لعن الرب وشتم الأمهات. إنه جيش جدا حقير. تأكد لنا ذلك مع دك المدن السورية في خريف 2012م. كل المال الذي دفع لهذا الجيش سلاحا تحول إلى قتل المتظاهرين.
المهم في ظلمات ذلك السجن الرمادي الرهيب كنت أسمع لمروان الخياط وهو يقرأ علينا أول سورة العنكبوت وهي تتحدث عن المحنة فحركت في ذهني مشاعر مختلطة رست في النهاية بأربعة أفكار؛ أنه ليس ثمة نهوض بدون محنة. يسميها توينبي قانون التحدي.
الثاني أنه ليس ثمة نقاوة وخلاصة وطهور وتطهر بدون هذا اللون من العذاب. حاول البعض إراحة دودة القز بإزالة شرنقتها فلم تخرج فراشة للطيران قط.
العذاب والمحنة هي شرط التطهير. هكذا ركبت الحياة أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين.
القانون الثالث أن المحنة يجب أن تأتي في حجمها ومكانها الملائمين من أجل النمو الأخلاقي. يقول القرآن يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه. الحياة بنيت على هذه الطريقة. المفاصل والعظام إذا ارتاحت ترققت وذابت وبالجهد والمجاهدة تنمو وتصلب.
القانون الأخير هناك مؤشرات تعطي أن المحنة جاءت وفق قانونها الخاص ليس زيادة تسحق ولا أقل فلا تحرك.
يعتبر المؤرخ توينبي أن التحدي يجب أن يأتي في الحدود المناسبة من أجل خلق روح الحضارة. ربما كانت أول نتائج أن المحنة جاءت في وسطها الذهبي هو نتاج الفكر والخلق الإنساني. هل خرج الممتحن حاقدا أم متطهرا؟ هل النتاج الفكري إنساني أم طائفي مذهبي حاقد؟
إن الأفكار التي تولد في أجواء المعاناة هائلة، والطير يغرد جيدا في القفص، وأعظم الأفكار جاءت من ظلمات السجون، ولذلك دخلها يوسف حتى يتنظف ويتطهر.
مع هذا هناك مخاطر أن تموت الحضارات أو لا تتخلق أو تتحنط في أجواء التحدي الصعبة الساحقة فوق الحد الذهبي.
يضرب المثل على ذلك توينبي تيبس وتحنط العديد من الحضارات والرؤى؛ الاسكيمو شعوب البولينيز اليهود البدو.. الخ.
كان السوريون إذا اجتمعوا في الخارج يرتاب كل واحد في الثاني أن يكون من المخابرات؛ فما يكون من نجوى ثلاثة إلا والمخابرات رابعهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا كان الجواسيس ينقلون الأخبار في التقارير السرية؛ فيمسك بصاحبها عاجلا أم آجل وعليه أن يخضع للتعذيب أو التطوع أن يكون عميلا سريا جديدا للنظام الأمني الأخطبوطي.
حاليا ومع نار المحنة يلتف السوري حول السوري، وفروق الأفكار بدأت في التضاؤل والاندماج يزداد قوة.
إنها نار المحنة في قانون المحنة أن المعدن الذي يتعرض للنار يصفو من الشوائب والكدر ويزداد التحامه وكذلك قدر الشعب السوري اليوم.
ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله؛ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال.
- آخر تحديث :
التعليقات