تزايد بعد انشاء هيئة التنسيق الوطنية مفهوم اسقاط النظام الأمني، والحفاظ على النظام السياسي البعثي وثقافته، بطرق متنوعة، وأساليب ملتوية، كتشكيل معارضة الداخل، بمنهجية النضال السلمي! رغم تواجدها في دمشق تحت خيمة سلطة الاسد ndash; العلوية، السلطة التي قضت على كل توجه سلمي للثورة السورية. رفضت هذه الهيئة التدخل الخارجي، ورفعت الشعار الملائم لخطط السلطة، وغايات التيارات السياسية فيها، كالبعثيين ومعهم حسن عبدالعظيم وحزبه، من منطق الحفاظ على السلطة السياسية، مع تعتيم على التدخلات الدولية المساندة للسلطة كايران وروسيا، والتيار الكوردي المتمثل ب حزب ب ي د سخره بقوة ضد الحكومة التركية ذات الاجندات المحددة من الثورة السورية والقضية الكردية في كل من سوريا وتركيا. على اطراف هذه المنهجية وتحت غطاء المعارضة الداخلية، صارع البعثيون التيارات المطالبة باسقاط النظام الكلي، وإزالة البعث كسلطة سياسية، في الوقت الذي كانوا حتى قبل الثورة غارقون في أرقة الأمن العلوي ndash; الأسدي، ورغم توضح الغايات الذاتية البعيد المدى لحزب البعث، رضخت جميع التيارات المشاركة في هيئة التنسيق الوطنية لاجنداتهم السياسية، حتى الكردية منها.

الصراع المتخفي في بدايات الثورة ما بين البعث والتيارات الاسلامية، خرج اليوم إلى الساحة بقوة، خاصة عندما وجد البعث إن العمل على سوية المعارضة الداخلية مرفوضة من قبل الشعب ولم يعد يجدي، فأتجه إلى التمازج والتدخل في تيارات المعارضة الخارجية، فقد تبين انتماءات البعض المشارك منهم في اللجنة التنفيذية والأمانة العامة للمجلس الوطني السوري. آخرين برزوا على ساحة المعارضة العسكرية عن طريق الانشقاقات الفردية كالضباط الكبار الذين لهم مراكز في البعث، هؤلاء تلقوا دعم خارجي من دول أوروبية وبصمت عربي، لمواجهة التيارات الاسلامية السلفية والتكفيريين الذين يتدخلون في أعماق الثورة بمجاريهم الخاصة والمدعومة من دول عربية ذات بنية مذهبية سنية راديكالية، والجهتين يدعمون مصالحهم الذاتية الاقتصادية الفكرية المذهبية، ومن أفظعه الصراع السني الشيعي المتفاقم، الذي شق مابين النظام الأسدي والبعثي متأخراً، وقرب ما بين الاخوان المسلمين الليبراليين والبعث، وما سكوت الاخوان على كتائب متشكلة باسم الطاغية صدام حسين سوى رضوخ لهذا الصراع، سكت عليها دول الخليج نفسها، في فترة كانت هذه الدول ترفض سماع أسم المجرم صدام حسين، فالقوى الثورية والجيش السوري الحر براء من هذه الانجرافات والتوجهات الشاذة التي تتوغل ضمنها، والتي كانت سلمية إلى أن أجبرت على حمل السلاح دفاعاً عن الشعب.

د. محمود عباس

تنجرف الثورة السورية إلى صراعات فكرية تقع خارج إطار المفاهيم والغايات التي من أجلها أنبثقت، وهي كانت واضحة ( أسقاط النظام ) فلم يعد يتردد الشعار في أجواء الوطن دون مرافقة لمفاهيم وشعارات متطرفة أخرى. الصراع واضح بين الشعب والنظام الأسدي، لكن الصراع الخفي المحتمي تحت شعارات الثورة هي التي سيعاني منها الشعب في الزمن القادم بعد أسقاط السلطة الأسدية. صراع مقيت بين البعث والتيارات الإسلامية المتنوعة، سينبثق بعد سقوط النظام، بينهم ثأر ودم، والغاية تجمع الاثنين وهي الاسئثار بالسلطة وليس تغيير النظام، متفقان في الابعاد، الابقاء على ثقافة النظام والخلفية السياسية - الاقتصادية، رغم تنوع في المفاهيم الروحانية والعلمانية، تياران متناقضان شكلا، متشابهان مضموناً، بدءاً من الانتهازية السياسية إلى الغايات الآنية، والمصالح الضحلة الوصولية، يجمعهما المنطق الفكري العروبي العنصري، والملغي لبقية الطوائف والاثنيات الأخرى المكونة لسوريا الوطن الكلي خارج الاطار العروبي، إلى جانب ذلك ستظهر صراعات أثنية - مذهبية بين هؤلاء والشعب الكردي والأثوريين والدروز الرافضين لطغيان سلطة مركزية آخرى.

أنشق ضباط بعثيون كبار، وبتخطيط حزبي مسبق، تدعمهم فرنسا بشكل خاص، متفقون مع هيئة التنسيق الوطنية في الداخل، حيث نقاط الالتقاء عديدة، بدءاً من مواجهة التدخل الخارجي، تحت شعارات طوباوية، منها لعدم تدمير البنية الاقتصادية الوطنية، وكأن السلطة السورية لم تدمر هذا البنيان منذ أكثر من نصف قرن وبمساعدة البعث نفسه، والبشرية تنظر صامتة كيف تأتي على نهاياتها، كما أنهم يتفقون على تغيير النظام الأمني فقط، ويتفقون على الحوار مع السلطة بدون شخصية الأسد، ووصل بقائد الجيش الوطني السوري المتشكل حديثا من مجموعة كتاب الجيش السوري الحر، اللواء الركن محمد حسين الحاج علي ومرافقيه من الضباط العسكريين البعثيين أن ينددوا بشكل مباشر بفكرة الحظر الجوي، والتأكيد على أن يكون الدعم الخارجي، العربي أو الاجنبي، تحت مراقبتهم وعن طريقهم فقط. أنه التفرد بالسلطة من نفس مفاهيم البعث القديمة، وهو رفض الوجود الآخر أيً كان نوعه. الضباط الآخرين المنشقين امثال مناف طلاس، يحضرون للإندماج بمعارضة سياسية خارجية وليست عسكرية، لفرض سياسة البعث على جميع جوانب المعارضة.
كان بإمكان هؤلاء الضباط الكبار أن يقودوا فرقهم أو ألويتهم باتجاه القصر الجمهوري، وليس الإنشقاق بشكل انفرادي، لكن من الواضح أن التخطيط البعثي له أبعاده، قد يصل إلى أطراف اشراك البعض من السلطة الأسدية نفسها، لا نستبعد قادما ظهور فكرة الحوار مع السلطة باشكاليات مغايرة لمفهوم المعارضة الحقيقية، والغاية النهائية تقويض الثورة السورية وتسييرها حسب اجنداتهم.

استطاع العديد من القوى المتخاذلة والانتهازية أو الضامرة الخروج إلى الساحة السياسية بفضل الثورة الشبابية، وربيع الشرق، ومن بينهم هذه المجموعات من حزب البعث بعد مرور سنة ونصف على الثورة السورية، خرجوا من تحت ركام الاهمال الأسدي العلوي ndash; الشيعي، ليظهروا على الساحة بفضل زخم الثورة السورية، تمكنوا من أثبات وجودهم في جهات المعارضة المتعددة، يحركون بشكل فاضح الصراع السني ndash; الشيعي، ليقودوا سوريا من سلطة مركزية دكتاتورية إلى سلطة دكتاتورية مركزية عروبية عنصرية بامتياز، سيحافظون بها على القوانين العنصرية الاستثنائية، التي أغرقت سوريا في دوامة الضياع والتخلف الثقافي الاقتصادي - السياسي.

رغم وقوف البعث العلوي إلى جهة الهلال الشيعي، إلا أن الأغلبية البعثية حددت مواقفها وشاركت التيارات الاسلامية السنية، بعد مداخلات ومحاورات سرية بين دول الخليج وتركيا وفرنسا، للوقوف في وجه التيار الشيعي - العلوي الداعم للسلطة الأسدية والذي هو أمتداد لسلطة أئمة ولاية الفقيه، والذي يقف معهم وبشكل سافر السلطة العراقية والمتمثلة بالمالكي وبعض تيارات المذهب الشيعي أمثال حزب الله من لبنان، لهذا انتشر عناصر البعث وضباطه مابين قيادة المجلس الوطني السوري، وهيئة التنسيق الوطنية، إلى أن سيطروا على قيادة الجيش السوري الحر، سمي الآن بالجيش الوطني السوري، المعارض لأي تدخل خارجي، ويتحركون لدمج المجلس الوطني وهيئة التنسيق الوطنية ببعضها، وذلك لفرض أجنداتها الخاصة والتي اصبحت بقدرة قادر تتوافق واجندات التيارات الاسلامية السنية والدول العربية المناهضة للمد الشيعي عليهم.

تقع هذه الحروب الفكرية الطائفية، المذهبية، الاثنية، خارج مجال الثورة السورية، يستخدمها قوى سياسية انتهازية لمصالحها الانانية الذاتية، وهي مجموعة من الامواج العديدة التي سترافق ثورات ربيع الشرق، فالثورة السورية بمفاهيمها وأهدافها أبعد واعمق من الصراعات الطائفية، ومن تحركات حزب البعث العنصري على ساحات المعارضة السياسية. لاشك إن هذه الموجات ستغير جغرافيات عديدة في المنطقة، بدءاً من الجغرافية السياسية إلى الحزبية إلى الاقتصادية والعلاقات الدولية، والمذهبية، والاثنية، لكن الثورة الحقيقية ستكون بعد سقوط السلطة السورية، وسيطرة القوى الانتهازية عليها.


الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]