جاء الشاذلي بن جديد الرئيس الجزائري بين شباط- فبراير 1979 وكانون الثاني- يناير 1992 الى السلطة بانقلاب عسكري مبطن. وذهب الى بيته بانقلاب عسكري آخر غير معلن، علما انه كان رجلا عسكريا. انتهى عهد الشاذلي بن جديد بمجرّد انه حاول الذهاب في لعبة التغيير الى النهاية. لم يدرك انه كان مجرّد ممثل للمؤسسة العسكرية في السلطة وان دوره انتهى عندما تجاوز المؤسسة العسكرية التي اتت به الى الرئاسة. تلك هي باختصار قصة رجل سعى الى نقل الجزائر الى مكان آخر بعدما اكتشف عمق الازمة التي تعاني منها منذ الاستقلال، اي قبل نصف قرن من الزمن.
لدى وفاة هواري بومدين اواخر العام 1978، كان العقيد الشاذلي بن جديد قائدا لاحدى المناطق العسكرية في الجزائر( ناحية الغرب)، كما كان بين الاكبر سنّا من كبار الضباط، فاختاره هؤلاء كي يخلف بومدين مطمئنين الى انه لن يمس بامتيازات رفاقه العسكر، لا لمصلحة طبقة بورجوازية معيّنة منفتحة على العالم الغربي كان يمثلها عبدالعزيز بوتفليقة ولا لمصلحة البيروقراطية الحزبية التي كان يمثلّها محمد الصالح يحياوي.
تنافس وقتذاك على خلافة بومدين كلّ من وزير الخارجية بوتفليقة، بصفة كونه احد اقرب الناس الى بومدين ومن المنتمين الى الحلقة الضيقة المحيطة به منذ ايّام حرب التحرير من جهة... ويحياوي الذي كان الشخصية الابرز في حزب quot;جبهة التحرير الوطنيquot; الحاكم من جهة اخرى.
اخرجت المؤسسة العسكرية الشاذلي بن جديد من الظلّ في شباط- فبراير 1979 واتت به رئيسا للجمهورية على حساب الاثنين. وقد انتظر بوتفليقة حتى العام 1999 كي ينتقم من القدر الذي ظلمه ويستعيد الاعتبار لنفسه...بفضل المؤسسة العسكرية ايضا!
كان الشاذلي بن جديد ضابطا عاديا. لم يمتلك الكثير من المؤهلات التي يمكن ان تجعل منه رئيسا للجزائر التي استطاعت في عهد بومدين ان تلعب دورا مهمّا على الصعيد الاقليمي وحتى العالمي من منطلق ان النظام الامني- الحزبي فيها كان يمتلك امكانات ضخمة وفّرتها مداخيل النفط والغاز. لم تكن للشاذلي مشكلة مع موقع رئاسة الجمهورية في ظلّ دولة لديها مؤسسات امنية قويّة متماسكة وحزب يمتلك انتشارا واسعا يشكّل امتدادا للاجهزة الامنية. كان كلّ شيء يسير على ما يرام وبشكل روتيني الى ان بدأت اسعار النفط في الهبوط كاشفة التركة الثقيلة لعهد بومدين.
وقفت الاجهزة الامنية للدولة، خريف العام 1988، عاجزة امام ثورة شعبية نجمت عن وجود اعداد هائلة من الشبّان العاطلين عن العمل وازمة سكنية خانقة شملت كلّ المدن والمناطق الجزائرية، فضلا عن صعود التطرف الديني في ظلّ انهيار النظام التعليمي.
في تشرين الاوّل- اكتوبر 1988، بدا ان الشاذلي اخذ علما بما تشهده الجزائر بعدما نزل المواطنون الى الشارع وحطموا بين ما حطموه مكاتب ما يسمّى quot;حركات التحريرquot; التي كانت تستضيفها الجزائر وتقدّم لها دعما، على حساب قوت الشعب. كانت مكاتب جبهة quot;بوليساريوquot;، وهي اداة تستخدم في ابتزاز المغرب ليس الاّ، من بين تلك التي استهدفها المتظاهرون الذين اجتاحوا وسط العاصمة وشارع ديدوش مراد تحديدا...
في الواقع، سعى الشاذلي بن جديد الى الخروج عن خط بومدين قبل quot;انتفاضةquot; خريف العام 1988، خصوصا انه اكتشف باكرا فشل خطة الاصلاح الزراعي والاستثمار في الصناعة الثقيلة من دون سياسة تسويق عملية. واكتشف خصوصا ان على الجزائر الانصراف الى مشاكلها الداخلية بدل السعي الى وهم الدور الاقليمي. وقد بذل بالفعل محاولات خجولة لاخراج الجزائر من النزاع الذي تخوضه مع المغرب في الصحراء بهدف واحد وحيد هو الابتزاز.
فشل الشاذلي بن جديد في ايجاد اختراق على صعيد ملفّ الصحراء، على الرغم من كلّ الجهود التي بذلها الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، للتقريب بين الجزائر والرباط والجمع بينه وبين الملك الحسن الثاني، رحمه الله.
كانت احداث العام 1988 فرصة كي يباشر الشاذلي بن جديد اصلاحات حقيقية تؤدي الى قيام نظام ديموقراطي حلم به. وقد اقسم في اثناء وجوده في مكّة المكرمة امام شهود على انه لن يتراجع عن ذلك. وعلى الرغم من كلّ الجهود التي بذلها في هذا الاتجاه، وعلى الرغم من اقرار قانون جديد للاحزاب سمح بالتعددية، اصطدم اخيرا بالمؤسسة العسكرية. ازاحت المؤسسة العسكرية الشاذلي خشية تثبيته نتائج الانتخابات البلدية التي اجريت اواخر العام 1991 والتي حقق فيها الاسلاميون فوزا كاسحا عكس الى حدّ كبير افلاس النظام من جهة وغياب الوعي السياسي لدى المواطن العادي من جهة اخرى.
وضع الشاذلي بن جديد حدا لحياته السياسية في 1992. تصرّف منذ ذلك التاريخ وحتى يوم وفاته كمواطن عادي اكثر من كونه رئيسا متقاعدا. ابتعد عن السياسة التي لم يكن في اي يوم شغوفا بها.
منذ خروج الشاذلي بن جديد من المشهد السياسي الجزائري، لم يتغيّر شيء في الجزائر، على الرغم من ان الشاذلي بن جديد شارك في تأسيس الاتحاد المغاربي في قمة مراكش 1989 ، وهو اتحاد كان مفترضا ان يساهم في تطبيع العلاقات بين دول المغرب العربي بعيدا عن العقدة الجزائرية التي اسمها عقدة المغرب والتصرفات المجنونة لمعمّر القذّافي...
لا شكّ ان القوات المسلحة والاجهزة الجزائرية لعبت دورا مهمّا في القضاء على الارهاب الداخلي والحد منه. لكنّ المشكلة الاساسية للجزائر بقيت على حالها نظرا الى غياب القدرة على اقامة نظام ديموقراطي يهتمّ اول ما يهتمّ بالجزائريين، نظام يتجرّأ مثلا على العودة الى جذور الازمة. ففي اساس الأزمة فشل عملية الاصلاح الزراعي وبناء صناعة ثقيلة لا اسواق لها، كلّفت مليارات الدولارات، وفشل برامج التعريب التي عجزت عن تعليم الجزائريين العربية وجعلتهم ينسون الفرنسية!
ما زالت الجزائر تبحث عن التصالح مع الجزائريين ومع محيطها. لا تزال تهرب من مشاكلها الحقيقية الى خارج معتمدة على اموال النفط والغاز ولا شيء آخر غير ذلك.
الى متى تستمر عملية الهرب؟ ذلك السؤال الكبير. كلّ ما يمكن قوله في وداع الشاذلي بن جديد الذي توفّى في السادس من تشرين الاوّل- اكتوبر الجاري عن ثلاثة وثمانين عاما ان الرجل سعى الى تغيير الجزائر، فما كان من المؤسسة العسكرية الاّ ان استبدلته، ذلك ان المصالح التي تدافع عنها هذه المؤسسة تظلّ فوق كل مصلحة اخرى، بما في ذلك مصلحة الجزائر والجزائريين!